بنية عالمية جديدة للصحة

01 ديسمبر 2021
01 ديسمبر 2021

لا شك أن الضرر الناجم عن جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) ــ والذي تفاقم بفعل استمرار ظهور متحورات جديدة، آخرها متحور أوميكرون ــ كان كارثيًّا. حيث أودت جائحة كوفيد-19 بالفعل بحياة أكثر من خمسة ملايين شخص في جميع أنحاء العالم، ومع ارتفاع الحالات المؤكدة من 260 مليون اليوم إلى 460 مليون بحلول الخريف المقبل، تُقدر منظمة الصحة العالمية أن المرض قد يُنهي حياة خمسة ملايين شخص آخرين خلال الأشهر القادمة.

في الدورة الاستثنائية لأعضاء جمعية الصحة العالمية، لا بد أن تتمحور مهمتهم حول منع تكرار مثل هذه المأساة، ولا شيء أقل من ذلك. على وجه التحديد، يحتاج العالم الآن إلى عقد اتفاقية ملزمة دوليا لمنع حالات تفشي الأمراض المعدية في المستقبل من التحول إلى جوائح. كما قالتيدروس جيبريسوس، المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، يجب أن يرتكز أي اتفاق جديد على أساس التزام رفيع المستوى لتوفير الصحة للجميع، وأن يستند إلى المساواة والتضامن بين البلدان. ينبغي أن يتمتع الجميع، بصرف النظر عن مقدار ثروتهم أو دخلهم، بإمكانية الوصول العادل إلى كل ما يلزمهم من أجل الحفاظ على صحتهم، ويجب على المجتمع الدولي أن يضمن الاستخدام والتوزيع العادلين للموارد الطبية المتاحة. وهذا سيتطلب وضع نظام مراقبة عالمي يعمل بكامل طاقته، وتسريع ومشاركة سُبل الدعم في حالات الطوارئ، وتوفير تمويل يمكن التنبؤ به.

لا شيء يُبرز الحاجة إلى مثل هذا الترتيب بصورة أوضح من الفشل الجماعي العالمي في الوفاء بوعد التوزيع العادل للقاحات كوفيد-19. على الرغم من أن الإنجازات العلمية الرائعة وجهود التصنيع القوية تشير إلى أننا سنُنتج 12 مليار جرعة بحلول نهاية عام 2021 ــ وهي كمية كافية لتطعيم كل شخص بالغ في العالم ــ يظل 95٪ من البالغين في البلدان المنخفضة الدخل غير محصنين. ولعل هذا يُمثل أكبر فشل للسياسة العامة في عصرنا.

يبدو أن هدف منظمة الصحة العالمية المتفق عليه دوليا، والمتمثل في تطعيم 40٪ من السكان البالغين في كل بلد بحلول ديسمبر 2021، لن يتحقق في 82 دولة. وفقا للاتجاهات الحالية، سيستغرق الأمر حتى عيد الفصح القادم لكي تقترب نسبة التطعيم من 40٪، وحتى ذلك الحين، قد تفشل عشرات الدول.

في الواقع، منذ انعقاد قمة مجموعة السبع في يونيو، عندما تعهد القادة بتحصين العالم أجمع ضد كوفيد-19 بحلول عام 2022، اتسعت الفجوة بين من يملكون اللقاح ومن لا يملكونه بدلا من أن تتضاءل. في البلدان ذات الدخل المرتفع، زادت معدلات التطعيم من 40٪ في يونيو إلى ما يقرب من 74٪ الآن، لكنها زادت ببطء في البلدان المنخفضة الدخل ــ من 1٪ إلى أقل من 5٪. الآن، مقابل كل شخص بالغ يتلقى لقاحا في بلد منخفض الدخل، يتلقى ستة بالغين في البلدان ذات الدخل المتوسط والمرتفع جرعات تقوية. ولا يزال 73٪ من العاملين في مجال الصحة في إفريقيا غير محصنين.

صحيح أن مبادرات إقليمية مهمة اتخذت خطوات لمعالجة فجوة التفاوت. حيث اشترى مرفق شراء اللقاحات التابع للاتحاد الأفريقي، الصندوق الأفريقي لاقتناء اللقاحات، 400 مليون جرعة لقاح من شركة جونسون آند جونسون، وبفضل جهود رئيس الصندوق سترايف ماسيوا والحكومة الأمريكية، اشترى الصندوق 110 ملايين جرعة أخرى من شركة مودرنا، يُسلم منها 50 مليون جرعة بحلول مارس. لكن هذا لا يزال غير كاف لتلبية احتياجات 1.3 مليار نسمة في إفريقيا.

ليس من الصعب تفسير هذا التفاوت: أظهر استطلاع حديث أجرته شركة آيرفينيتي أن أغنى دول العالم اشترت 89٪ من جميع لقاحات كوفيد-19، وتحتفظ حاليا بالسيطرة على 71٪ من الشحنات المستقبلية. لم تفِ دول شمال الكرة الأرضية بتعهداتها بالتبرع باللقاحات لدول الجنوب. أرسلت الولايات المتحدة 25٪ فقط مما وعدت به، بينما كان أداء الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وكندا أسوأ، حيث أرسلوا فقط 19٪ و11٪ و5٪ على التوالي من الجرعات التي تعهدوا بها. حتى مبادرة تسهيل الوصول العالمي للقاحات كوفيد-19 (كوفاكس)، التي كانت تأمل في توزيع ملياري جرعة لقاح بحلول ديسمبر، تتوقع الآن تقديم ثلاثة أرباع هذه الكمية فقط. هذا هو حجم اكتناز اللقاحات في البلدان الغنية، حيث تقدر آيرفينيتي أنه بحلول نهاية عام 2021، ستنتهي صلاحية 100 مليون جرعة في مخزون مجموعة العشرين وتضيع هباء. والحق أن تخزين اللقاحات المنقذة للأرواح من جانب دول مجموعة العشرين وحرمان الدول الأشد فقراً منها، مع السماح بتبديد عشرات الملايين من الجرعات، هو عمل تخريبي على المستويين الاجتماعي والصحي لا يمكن الدفاع عنه أخلاقيا، ولا ينبغي أن يُنسى أو يُغتفر. تُظهر التفاوتات في كميات اللقاحات سبب الحاجة إلى إحداث مزيد من التغييرات الأساسية في البنية الدولية لمجال الصحة العامة العالمية فيما يتعلق باتخاذ القرارات المتعلقة بالصحة.

بالطبع، من بين المنظمات الدولية، هيئة الاستئناف التابعة لمنظمة التجارة العالمية، والمحكمة الجنائية الدولية، التي تُعتبر قراراتها نهائية، هما الجهتان الوحيدتان اللتان تتمتعان بالحرية والسلطة اللازمتين لاتخاذ قرارات مُلزمة يتعين على الحكومات الوطنية اتباعها. لهذا تتعرض هاتان الهيئتان لهجوم من قبل تحالف مناهض للأممية. ومن ثم، فإن إبرام معاهدة ملزمة لن يكون أمرا سهلا. توجد بالفعل معاهدة صحية عالمية للحد من الطلب على التبغ وعرضه، واتفاقية عام 2011 لضمان حصول منظمة الصحة العالمية على إمدادات لقاح الإنفلونزا عند الحاجة. لكن الميثاق الدولي الملزم قانونيا، والضروري لتمكين سلطات الصحة العالمية من بذل المزيد من الجهود للوقاية من الجوائح واكتشافها والاستعداد لها والسيطرة عليها، قد استعصى علينا حتى الآن. وفي الوقت الذي تظهر فيه متحورات جديدة من كوفيد-19، من الضروري أن تطلق القمة الاستثنائية عملية تهدف إلى وضع اتفاقية ملزمة قانونا تحت رعاية دستور منظمة الصحة العالمية. علاوة على ذلك، يمكن أن تعتمد الحكومات على العديد من التقارير المهمة الصادرة مؤخرا. وهذه تشمل تقريرا أصدرته لجنة مستقلة رفيعة المستوى من مجموعة العشرين، برئاسة كل من لاري سامرز، وتارمان شانموجاراتنام، ونجوزي أوكونجو إيويالا؛ والتقرير المُقدم إلى المنطقة الأوروبية لمنظمة الصحة العالمية بقيادة ماريو مونتي؛ وتقرير مراجعة منظمة الصحة العالمية بقيادة رئيسة ليبيريا السابقة إلين جونسون سيرليف ورئيسة وزراء نيوزيلندا السابقة هيلين كلارك. لا بد أن تشتمل الاتفاقية القوية على عدة عناصر رئيسية.

أولا، ينبغي أن يتمتع القادة العالميين في مجال الصحة بسلطة أكبر لتطوير ورفع مستوى المراقبة الصحية. ثانيا، يتعين علينا أن نستفيد من العمل الرائد لمبادرتي تسريع إتاحة أدوات مكافحة كوفيد-19 (ACT-A) وكوفاكس، وأن نعمل على ضمان التصنيع والتوزيع العادل لمعدات الحماية الشخصية، والفحوصات، والعلاجات، واللقاحات، بحيث يتسنى لجميع البلدان أن تحمي نفسها بشكل أفضل ضد الجوائح الحالية والمستقبلية.

ثالثا، نحن بحاجة إلى تشكيل مجلس عالمي يختص بالتخطيط للتأهب للجوائح. لكن مثل هذه الترتيبات لن تنجح إلا إذا ابتكر القادة آلية تمويل مستدامة لمعالجة أوجه التفاوت العالمية الصارخة فيما يتعلق بتوفير الرعاية الصحية. في أوقات الأزمات العالمية، كثيرا ما نكتفي بتمرير القبعة طلبا للتبرعات أو عقد مؤتمرات مانحين ارتجالية.

من الناحية المثالية، ينبغي تمويل خطط التأهب للجوائح وفقا لصيغة تقاسم الأعباء التي توزع التكاليف بين البلدان ذات القدرة الأكبر على الدفع.

حتى الآن، يُغطى أقل من 20٪ من ميزانية منظمة الصحة العالمية بهذه الطريقة. جدير بالذكر أن القضاء على الجدري في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي كان لحظة تاريخية لأسباب ليس أقلها أن الدَّفعة الأخيرة بدأت من خلال اتفاقية تقاسم التكاليف بين الدول الأكثر ثراء. قد يكلفنا الفشل في تلبية أهداف التطعيم العالمية ضد كوفيد-19 خسارة نحو 2.3 تريليون دولار من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2025. بالتفكير في هذا الاحتمال، فإن الميزانية السنوية بقيمة 10 مليارات دولار التي اقترحتها اللجنة المستقلة الرفيعة المستوى لمجموعة العشرين للوقاية من الجوائح والتأهب لها ستوفر واحدا من أكبر عوائد الاستثمار في التاريخ. لكن ينبغي لنا أن نتصرف الآن ــ وقمة جمعية الصحة العالمية المنعقدة هذا الأسبوع هي المكان المناسب للبدء.

** رئيس الوزراء الأسبق ووزير المالية في المملكة المتحدة

** خدمة بروجيكت سنديكيت