أنصار العولمة والشعبوية في دافوس
ترجمة قاسم مكي -
كان المشاركون في المنتدي الاقتصادي العالمي السنوي الذي انعقد الأسبوع الماضي في دافوس بسويسرا في مزاج سيء، حسبما ذُكِر.
فالعامان السابقان قوَّضا أحلامهم بالعولمة غير المقيَّدة بعدما كشفت الحربُ والمرض والتضخم والمجاعة عن مخاطرها وجوانبها السلبية. لقد جاء انزعاجهم هذا متأخرا كثيرا عن أوانه.
يرتكز إيمان أنصار العولمة على ثلاث دوغمائيات (أفكار جازمة) ولكنها باطلة. أولها الاعتقاد بأن التجارة غير المقيدة مع أفقر بلدان العالم ستفيد كل أحد في اقتصادات العالم الغني. من الواضح أن هذا الاعتقاد هو الأكثر زيفا. فاللامساواة الاقتصادية المتزايدة في الولايات المتحدة والبلدان المتقدمة الأخرى ناتجة عن ارتفاع عائدات (دخول) الحاصلين على تعليم راقٍ وركود أجور العمال غير المهرة. وتعاظم قوى الشعبوية سواء على اليسار أو اليمين هو الثمرة المرَّة لفساد هذا التصور.
أما الاعتقاد الزائف الثاني فقد فضحه الحرب في أوكرانيا. فحوى هذا الاعتقاد أن الغرائز العدوانية للبلدان غير الديموقراطية سيحِدُّ منها الاعتماد الاقتصادي المتبادل مع الغرب الديموقراطي. لقد اتضح تماما الآن أن المستبدين الطموحين أكثر استعدادا لإفقار مواطنيهم في سعيهم وراء أهداف شريرة. يعتقد القادة الأوروبيون بصدق أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عندما يجد الجد سيفضِّل الثروة على القوة العسكرية. لكنهم أخطأوا في ذلك. عاقبة هذه الفرضية الباطلة تتكشف الآن أمام العالم.
تحاول البلدان الأوروبية التخلي عن النفط الروسي بشراء موارد طاقة أخرى أغلى ثمنا. وسيؤذي قرار العالم الغربي بفرض عقوبات غير مسبوقة على روسيا اقتصاداتِها هي نفسها. أوضح ما يكون ذلك في أزمة الغذاء الناتجة عن مقاطعة صادرات الحبوب والمخصبات الزراعية الروسية.
الآن ترى هذه البلدان بوضوح أن التداخل الاقتصادي المعقد يجعلها تدين بالفضل للمستبدين وليس العكس. وهذا يشكل ضربة خطيرة "للدَّافوسيَّة."
الفكرة الثالثة الباطلة هي أن سلاسل التوريد ستظل دائما مفتوحة وحرة. لكن أثر الجائحة المستمر على الصين يوضح بشكل قاطع أن هذا ليس صحيحا. تدرك الشركات الآن أن هنالك مخاطر جَمَّة لنقل الإنتاج إلى بلدان تفصلها عنها آلاف الأميال وعدة محيطات. فإذا كانت تلك المصانع داخل الغرب يمكن للشركات الضغط على الحكومات المنتخبة ديموقراطيا لموازنة الضرر الاقتصادي للإغلاق مع المكاسب الصحية المفترضة.
لكن ليس لديها مثل هذا النفوذ مع الصين أو الحكومات الأجنبية الأخرى مما يجعلها بلا حول ولا قوة حين تفشل في الوفاء بطلبيات المتعاملين معها.
لا أحد ينكر أن العولمة نعمة جليلة لفقراء العالم. فنسبة سكان العالم الذين يعيشون في فقر مدقع هبطت حسب البنك الدولي من 36% في عام 1990 إلى حوالى 9% اليوم. كان هذا التدهور حادا خصوصا منذ انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001 حيث تراجعت النسبة من أقل قليلا من 30% إلى مستواها الحالي. هذا تقدم كبير ولا يرفض شخص محترم الثناء على العولمة لهذا الإنجاز.
لكن الحكومات الديموقراطية لا توجَد لتمويل تقدم البلدان الأخرى. فمسؤولياتها الأساسية هي دعم بلدانها. وسيكون شيئا عظيما إذا أمكنها تحقيق ذلك وفي ذات الوقت مساعدة الآخرين. لكن لن يبق قادة منتخبون في الحكم لفترة طويلة إذا تجاهلوا حاجات الناس في الداخل.
سيدفع انكشاف إفلاس فرضيات العولمة الرأي العام نحو إعادة الأمور إلى نصابها في المستقبل المنظور. يجب ألا يعني ذلك إعادة نصب حواجز الرسوم الجمركية ولا تقليصا حادا للتجارة الدولية. لكن يمكن أن يكون ذلك كذلك إذا قررت جماعة دافوس أن من الأفضل لها التشبث بفرضياتها (تصوراتها الدوغمائية) بدلا عن التحلِّي بالمرونة. وهو حقا يعني أن المواطنين سيطالبون بالإصلاح وأن ذلك الإصلاح سيبطيء الاندفاع الفوضوي نحو الحكومة العالمية التي يتطلع إليها في شغف مرتادو منتدى دافوس.
سينزعج هؤلاء القوم بشدة من اتجاه البلدان إلى استعادة صناعاتها الحيوية من الخارج وتفضيلها الاستثمار بالقرب منها وداخل مجال نفوذها. لكن ذلك ما فعله أسلاف جمهور دافوس (ارستقراط وبلوتوقراط أعوام الثلاثينات من القرن الماضي) مع بناء الاقتصاد المختلط الحديث في أعقاب الركود العظيم.
لقد امتعضوا من كل ضريبة وإجراءات جديدة فرضتها حكومات منتخبة ديموقراطيا. لكن نتيجة ذلك كانت الاستقرار السياسي للغرب الذي صار مثار إعجاب وغيرة العالم.
ذلك ما ينبغي أن يستهدفه الشعبويون العقلاء اليوم. عليهم أن يرغبوا في إصلاح الرأسمالية العالمية وليس القضاء عليها. والأهم من ذلك عليهم الحفاظ على الديموقراطية وحكم الشعب.
ربما تُغري المشاركين في منتدى دافوس الكفاءةُ المزعومة للأوتوقراطية، لكن على الشعبوبيين رفض التقدم الاقتصادي إذا كان ثمنه الارتداد السياسي. قد تكون هونج كونج غنية ومستقرة لكن فوضي الديموقراطية أفضل.
لقد لازَمَ شبح عولمة دافوس "اللا ديموقراطية" العالمَ على مدى عقود. واليوم يمكن لمواطني العالم الأحرار التخلص من هذا الشبح إذا اختاروا ذلك. فليس لديهم ما يخسرونه سوى أغلالهم.
هنري أولسن زميل أول بمركز الأخلاق والسياسات العامة وكاتب عمود في واشنطن بوست
ترجمة خاصة لـ عمان عن واشنطن بوست
