الأمم المتحدة من الفاشر: مسرح جريمة
29 ديسمبر 2025
29 ديسمبر 2025
دخل موظفو الأمم المتحدة أخيرا إلى مدينة الفاشر السودانية ثم خرجوا منها بأكثر من تقرير إنساني. خرجوا بما يمكن أن يكون شهادة جنائية تقول إن المدينة أطفئت بالكامل، وخلت من الحياة أو تكاد. لا حركة طبيعية، ولا شوارع تُشبه شوارع المدن، ولا حياة عامة يمكن التقاطها حتى من بعيد.. فقط بقايا بشر يختبئون داخل مبان مهجورة أو تحت أغطية بلاستيكية، وسوق ضامر لا يملك إلا القليل مما يثبت أن المكان كان يوما مركزا لناس لهم أسماء ومهن ومواعيد وطقوس يومية. نجح العنف في كسر فكرة المدينة والمدنية وزرع بدلا من كل ذلك الخوف واليأس إلى وقت لا يعلمه إلا الله.
لا أحد يستطيع أن يقول إنه لم يكن يعرف ما الذي ينتظر الفاشر. ثمانية عشر شهرا من الحصار كانت كافية لتخبر العالم، يوما بعد يوم، أن المدينة تُدفع عمدا إلى الحافة. التحذيرات من المذبحة التي ستلي سقوطها، والتي تكشف تفاصيل منها الأمم المتحدة الآن، كانت تُنشر وتُتداول وتُرفع إلى المنابر الدولية.
وصف منسقة الأمم المتحدة في السودان الفاشر بأنها «مسرح جريمة» وهذا التوصيف ليس انفعاليا، إنه تعريف وظيفي لما صارت عليه المدينة، مكانٌ تُرى فيه آثار ما حدث أكثر مما تُرى فيه حياة يمكن أن تستمر.
لكن «المدينة الخاوية» ليست نتيجة للنزوح، إنها علامة على نوع الحرب. هناك حروب تُسقط مدنًا ثم تسعى لإدارتها. وهناك حروب تُسقط المدن بإفراغها من سكانها، ثم تسعى لإقناع الخارج أن الحياة «عادت إلى طبيعتها». الفاشر تبدو من النوع الثاني حيث يعاد الآن تشكيل صورة المكان عبر الخوف لا عبر السلطة التي تدير المكان. وهذا هو المعنى الحقيقي لأخبار المفقودين والمعتقلين والجرائم ذات الدوافع العرقية. لا يستخدم العنف في مثل هذه الحرب لفرض سيطرة عسكرية فقط، ولكن لإعادة فرز المجتمع بالقوة، ومعاقبة الهوية.
الفظائع في دارفور تحمل دائما ظلا تاريخيا يرفض أن يموت. قوات الدعم السريع لم تنبت من فراغ. هي امتداد مُعاد تدويره لتكوينات وميليشيات عرفها الإقليم قبل عقدين، يوم كانت الجنجويد تُطلق على القرى والسكان باسم الدولة. يومها قيل «لن يتكرر». ثم تكرر، بالطريقة السودانية نفسها. الفارق الوحيد أن العالم صار أكثر مهارة في الصمت وفي رفع مستوى «القلق» ثم في خفض مستوى الفعل الحقيقي.
لا تستطيع الحرب، أي حرب، أن تستمر من دون اقتصاد خارجي يُغذيها. في السنوات الماضية، تم التعامل مع قوات الدعم السريع باعتبارها أداة يمكن استخدامها في ضبط الحدود، وفي ترتيبات الهجرة، وفي حسابات «الاستقرار» السريعة. والمال الذي يُدفع باسم «إدارة الهجرة» حين تقع مسؤوليات التنفيذ عند أجهزة أمنية مرتبطة بالقوة المسلحة، يصير، حتى إن لم يُقصد، جزءا من منظومة تمكين. والأسلحة لا تصل إلى ساحات القتال بقوة الدعاء. الأسئلة التي تتردد اليوم في العواصم الغربية حول معدات عسكرية ظهرت في السودان هي أسئلة عن السلسلة التي تبدأ بصفقة وتنتهي بقرية تحترق أو بمستشفى يفرغ من الحياة.
وفوق ذلك كله، تتكاثف الاتهامات حول دور أطراف إقليمية في تسليح الدعم السريع وتمويله، اتهامات تنفيها تلك الأطراف بغضب، لكن تتعقبها تقارير صحفية وتحليلات دبلوماسية وإشارات إلى تدفقات سلاح وتكنولوجيا، فيما يسير الذهب في الاتجاه المعاكس. هذه هي المعادلة الكلاسيكية للحروب الطويلة، وقود يدخل، وثروة تخرج، والضحايا عالقون في المنتصف. لذلك يبدو الحديث عن «تقسيم فعلي» للسودان، أو عن حرب لا يستطيع طرف حسمها ولا يستطيع طرف إنهاءها، حديثا واقعيا ما دامت الصنابير مفتوحة. وما دامت دارفور في قبضة القوة التي تسيطر على مدنها الكبرى، سيظل الخطر قائما أن ينتقل من الفاشر إلى مدن أخرى وبشكل أكثر فظاعة وشراسة.
ومع هذا، ليس صحيحا أن العالم عاجز. العالم يختار. يستطيع أن يضغط على ممولي السلاح وممراته، وأن يرفع كلفة الاستمرار، وأن يفرض حظرا فعليا على نقل السلاح والتقنيات، وأن يوسع العقوبات لتشمل شبكات التهريب والواجهات المالية.
ما كشفت بعض تفاصيله بعثة الأمم المتحدة هو جريمة حرب على مرأى من النظام الدولي، واختبار لمعنى العدالة. لكن المأساة مستمرة والعالم القادر على إحداث التغيير ووقف الجرائم ما زال يختار الصمت. فإذا كانت الفاشر «مسرح جريمة»، فعلى العالم أن لا يكون جمهورا وإنما يكون قاضيا.
