الأسرة العربية والأمن الثقافي
إذا كانت الأسرة هي نواة المجتمع في ثقافتنا وفي بنائنا الاجتماعي فلا يمكن أن تصبح شأنا فرديا أو يُترك بناؤها للمزاج أو الخبرة المنزلية. تتحول الأسرة في هذه الحالة إلى مؤسسة سياسية بالمعنى الأوسع لمفهوم السياسة؛ فهي التي تصنع الضمير في معناه الإنساني والوطني، وهي التي تملك آليات إنتاج الانضباط الذاتي، والحد الأدنى الذي يمنع المجتمع من التحول إلى «سوق» كبيرة بلا قيم ولا مبادئ ولا مشتركات وطنية.
لكن لا يمكن للأسرة أن تقوم بهذا الدور السياسي إذا بقينا نتعامل معها بوصفها مساحة للحنين والعطف أو حتى موضوعا تربويا هامشيا. الاستمرار في بناء هذه الصورة الذهنية للأسرة هو أحد أهم الأسباب التي يضعفها أمام المد القادم من الحضارات الأخرى ومنظوماتها الإعلامية والمعلوماتية الضخمة. وهذا الإضعاف يبدأ من الصورة الحنينية التي نصور بها الأسرة ويمتد إلى إبعادها عن أن تكون قضية عامة مثلها مثل القضايا العامة المصيرية التي تبذل الدول كل ما تستطيع من أجل حمايتها وتقويتها ومدها بآليات العمل المناسبة. والأسرة في العالم العربي في أمس الحاجة إلى التمكين الحقيقي عبر فهم دورها وامتلاك أدوات القيام بذلك الدور ودعمها بالطريقة نفسها التي تدعم فيها بقية المؤسسات الرئيسية في الدولة.
الخطر القيمي والأخلاقي وخطر المبادئ والقيم القادمة من الحضارات الأخرى لا يمكن الاستهانة به أبدا. والمشكلة ليست في الحضارة الغربية أو حتى في نظرية المؤامرة، المشكلة الحقيقية في أن المنظومة العالمية تعمل بكل ما تملك من أجل تحويل الإنسان إلى مستهلك، والأخلاق والقيم إلى خيار شخصي، والهوية إلى أمر قابل للتبديل. وتُعامل هذه المنظومة العالمية القيم بوصفها «آراء» وليست شروطا لازمة للحياة المشتركة. وتقيس هذه المنظومة العالمية نجاحها بحجم المشتريات وليس بحجم البناء بكل ما يعني البناء من رقي وتقدم معرفي وأخلاقي وإنساني.
وتعيد هذه المنظومة تعريف الحرية على أنها إزالة لكل قيد، حتى القيود التي تجعل الإنسان أقدر على احترام ذاته واحترام غيره! وهذا هو الجوهر الذي يتسلل إلى البيوت عبر الصور والمنصات والسينما ولغة الإعلان وثقافة المقارنة الدائمة.
وإذا كان العالم العربي يتراجع سياسيا الأمر الذي يفقده القدرة، تقريبا، على حماية مجاله الثقافي، فإن الأمر يستحق أن توجه كل ما يملك العالم العربي من أدوات لحماية الأسرة وحفظ ما تبقى لديها من مواطن قوة وآليات تأثير في بناء المجتمعات.
لا تستطيع المدرسة وحدها تعويض الفراغ الذي يتركه غياب دور الأسرة، ولا يصنع الإعلام ضميرا من العدم، ولا يملك القانون خلق الفضيلة. يمكن للدولة أن تضبط السلوك العام، لكنها، أيضا، لا تستطيع أن تزرع الدافع الداخلي الذي يجعل الفرد يختار الصواب حين لا يراه أحد.. لكن الأسرة تستطيع فعل كل هذا.
في عُمان، رغم أن الأسرة ما زالت تمتلك دورا كبيرا في بناء المجتمع، إلا أن الحديث عن الأسرة وأدوارها يحتاج إلى حضور أكبر في نقاشاتنا اليومية، وإلى دور أكبر من الدولة في تمكين الأسرة من القيام بدورها. المشروع كبير جدا ويحتاج إلى هيكلة ضخمة في إعادة الحياة للقرى وللمجالس ولكل تفاصيل الحياة الاجتماعية لكن لا بأس أن يتحول موضوع «السمت العماني» إلى قضية وطنية تأخذ حقها من النقاش ومن التطبيق واستعراض النماذج المشرفة.
الموضوع ليس دعوة للانغلاق والحساسية تجاه الأمم والشعوب الأخرى ولكنه دعوة لاستعادة حق المجتمع في أن يُربي أبناءه على معنى الحياة، لا على منطق السوق وحده. والانفتاح على الآخر لا يعني التخلي عن الجذور والتماهي فيه. تستحق الأسرة أن ننظر لها باعتبارها موضوع أمن ثقافي وهذا لا يترك للاجتهاد ولا للصدفة.
