No Image
رأي عُمان

النظام العالمي الجديد القائم على القواعد

21 ديسمبر 2025
21 ديسمبر 2025

يتحوّل العالم بسرعة تفوق قدرة مؤسساته على الاستيعاب. لم تعد الأزمة في حرب هنا أو توتر هناك، بل في القاعدة التي كانت تُنظّم الخلافات وتمنعها من التحول إلى حرائق مفتوحة. النظام الذي وُلد بعد الحرب العالمية الثانية ـ بميثاق الأمم المتحدة، وبمؤسسات التجارة والمال، وبفكرة أن القواعد تعلو على إرادة القوة ـ يتآكل تحت ضغط واقع جديد، حيث تتصاعد المنافسة وتتآكل الثقة العامة، فيما صار الاقتصاد العالمي ساحة صراع تاركا أفكار التكامل التي نادى بها طويلا.

تتنافس القوى الكبرى اليوم على محاولة تعريف مصطلح «الشرعية» عبر سؤال، ما الذي يُعدّ مقبولا في السياسة والحرب والاقتصاد؟ وما الذي يُعدّ انتهاكا يستوجب العقاب؟ الإجابة عن مثل هذا السؤال تمضي في انتقائية تُسقط هيبة القواعد وتُقدّم منطق الصفقات.

هذا هو الباب الواسع لمرحلة تتعدد فيها الأقطاب وتقل فيها الضوابط. وهذا التعدد لا يعني حتى الآن توازنا صحيحا بقدر ما هو احتكار للقوة بين قلة من الدول، واستبعاد تدريجي للدول الصغيرة والمتوسطة، ودفعها للبحث عن مظلات حماية على حساب سيادتها.

لكن هذه الصورة لا تعكس حقيقة المشهد العالمي الكامل. فليس صحيحا أن العالم محكوم فقط بثنائية واشنطن وبكين. هناك كتلة واسعة من الدول في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ودول من الشرق الأوسط باتت تمتلك وزنا اقتصاديا وديموغرافيا وموارديا يجعلها شريكا مقرِّرا في أي نظام مقبل. وهذه الدول لا تريد أن تُستدرج إلى معسكرات مغلقة، ولا أن تُستعمل كساحات بالوكالة، تريد مقعدا في القرار، ونصيبا عادلا من قواعد التجارة والتمويل، واحتراما لسيادتها، وفرصا تنموية لا تُختزل في قروض تُثقل كاهلها أو مشاريع تُشترى بها الولاءات. ومن دون الاستجابة لهذه المطالب، ستظل الشرعية الدولية تتفتت، وستظل القدرة على إدارة الأزمات الكبرى محدودة.

الخطر أن أدوات الترابط نفسها ـ التجارة والطاقة والتكنولوجيا ـ تحولت إلى أدوات ضغط. فالاعتماد المتبادل الذي كان يُفترض أن يردع الصراع صار يُستعمل لابتزاز الخصوم أو معاقبتهم أو حرمانهم من الأسواق والتقنيات. وفي ظل هذا التحول، تزداد الحاجة إلى إطار متعدد الأطراف أقوى، لا أضعف، إطار يجعل المصلحة العامة جزءا من المصلحة الوطنية، ويمنع أن تتحول حياة البشر إلى تفصيل في مفاوضات الصفقات الكبرى.

كيف نبني نظاما عالميا جديدا؟ البداية يمكن أن تنطلق من هندسة مؤسسية جديدة تعيد توزيع السلطة والتمثيل والشرعية. وإصلاح الأمم المتحدة يأتي في مقدمة هذه الهندسة الإصلاحية، وبحيث يستطيع مجلس الأمن أن يقنع العالم بأنه محكمة عدل، فالمشكلة لم تعد نقص مبادئ، بل اختلال توزيع السلطة داخلها. المطلوب تمثيل أعدل للقارات، وآليات تقيّد تعطيل المجلس، وتضع حدودا لإفلات المنتهك من المحاسبة. فالمعيار الذي لا يسري على الأقوياء يتحول إلى نصّ بلا معنى.

وفي الاقتصاد العالمي، لا يمكن أن يستمر نظام التجارة والتمويل بوصفه ناديا مغلقا يحدد قواعده من يملكون النفوذ التاريخي. وإصلاح مؤسسات المال والتجارة يقتضي شفافية أكبر، وعدالة في الفرص، ومرونة في صنع القرار، وحلولا واقعية لأزمات الديون والتنمية. وأي نظام عالمي لا يمنح الجنوب فرصا حقيقية للنمو سيخلق جنوبا يبحث عن بدائل خارج الإطار القائم، ويُسرّع الانقسام بدل احتوائه.

لكن الإصلاح المؤسسي وحده لا يكفي من دون «واقعية أخلاقية» توازن بين المصالح والقيم الأساسية. ثمة مبادئ لا يصح التفاوض عليها مثل، سيادة الدول، وسلامة الأراضي، وحظر استخدام القوة، والحقوق الأساسية للإنسان. وحماية هذه المبادئ أول شروط الاستقرار. وفي الوقت نفسه، لا تُبنى الشراكات بالإملاء، بل بالإنصات واحترام اختلافات التاريخ والثقافة ومسارات التنمية.

لا بد من قواعد تمنح الدول الصغيرة والمتوسطة مزيدا من الضمانات، فحين تضعف القواعد، يصبح الجميع عُرضة لابتزاز القوة، وحين تُصلح القواعد وتُعزَّز المؤسسات، يصبح للدول مساحة أوسع للوساطة، وللحياد، ولصناعة توازنات تمنع الانزلاق إلى صدامات كبرى. هذا هو جوهر الرهان للمرحلة القادمة، فإمّا نظام تتعاون فيه الأمم وتشعر فيه بالأمان والتكامل وإما أن يتحول العالم إلى فوضى وصفقات وسلسلة أزمات لا تنتهي أبدا.