No Image
ثقافة

مرفأ قراءة .. «لبلب في مواجهة شمشون» .. السينما تقاوم!

04 نوفمبر 2023
04 نوفمبر 2023

-1-

استكمالًا لحديثنا عن موضوع «المقاومة» الذي يفرض نفسه ومضمونه ومشروعيته في ظل الأحداث الصعبة التي تواجهنا منذ السابع من أكتوبر الماضي، ما زلنا نواصل رحلتنا لاستكشاف تيمة «المقاومة» و«الكفاح المشروع» ضد المستعمر الغاصب والمحتل الأثيم، في نصوص أدبية (روايات وقصص قصيرة ومسرحيات) وفي فنون بصرية (السينما والدراما والفيلم الوثائقي.. إلخ).

استعرضنا في الحلقتين السابقتين جوانب من تمثيل فكرة المقاومة وتمثيل المأساة الفلسطينية في نماذج من أعمال غسان كنفاني أبرز كتاب الرواية الفلسطينية، وأبرز ممثلي أدب المقاومة عموما، وتوقفنا عند روايته الأهم والأشهر «رجال في الشمس».

في هذه الحلقة نستعرض نموذجًا سينمائيا فذا وعبقريا في تاريخ السينما العربية، فيلمًا يبدو للوهلة الأولى فيلما كوميديا ساخرا، هزليا، عابثا، لا يمت بصلة لأي حدث جادٍ أو قضية ذات شأن مثل قضية الصراع العربي-الإسرائيلي أو مواجهة البطش والعدوان الغاشم ضد المدنيين والأطفال والنساء في غزة!

الفيلم اسمه «عنتر ولبلب» وهو من كلاسيكيات الكوميديا المصرية من إنتاج مطالع الخمسينيات في القرن الماضي (بالتحديد في 1952) وكان من بطولة الفنان المصري الراحل محمود شكوكو (الذي اشتهر بأداء شخصية الأراجوز، وإليه يعود فضل إحياء هذا الفولكلور التراثي الشعبي الأصيل).

دليلنا في هذه الرحلة الاستكشافية لهذا الفيلم الرائع، كتاب الناقد القدير محمود عبدالشكور «سينما مصر» الذي قدّم فيه قراءة جدّ فريدة ومتميزة للغاية لهذا الفيلم بعنوان «كوميديا وطنية شعبية مدهشة»، كشف فيه ببراعة -من خلال تحليل مشاهده وإعادة ترتيب السيناريو وجمل الحوار- المغزى السياسي العميق للفيلم، وما يحمله من رفض ذكي وفعال للاحتلال، وإعلاء قيمة المقاومة والثقة في التغلب على المستعمر مهما كانت قوته أو بطشه أو جبروته.

كما اعتبر عبدالشكور هذا الفيلم الظريف، الذي يبدو بسيطًا للغاية وهو ليس كذلك بالطبع، في قائمة أفضل الأفلام الكوميدية المصرية في القرن العشرين، بل لعله من أذكاها أيضًا، وهو ما زال حتى اليوم عملًا ممتعًا وشعبيًا، يعرفه البعض بفيلم «الأقلام السبعة»، و«القلم» بالعامية المصرية أي «الصفعة على الخد أو جانب الوجه»، وربما تسمى كذلك، لأنها تترك على الوجه ما يشبه شكل الأقلام الحمراء الملونة!

-2-

في البداية نعرّف بالفيلم الذي عرض للمرة الأولى في السابع عشر من أبريل من عام 1952 (أي قبل حركة الضباط الأحرار في يوليو من العام ذاته بثلاثة أشهر فقط).

الفيلم اسمه «عنتر ولبلب» وكان اسمه الأصلي «شمشون ولبلب»، ولكنه رُفع من صالات العرض عقب عرضه الأول، وعاد ليعرض من جديد بعد تغيير عنوانه إلى «عنتر ولبلب»، بل وتم عمل مونتاج صوت للفيلم، بحيث تتحول كلمة «شمشون» في كل مشهد من مشاهد الفيلم كما يوثقه محمود عبدالشكور، إلى كلمة «عنتر»، وهو أمر واضح تمامًا في النسخ التلفزيونية المعروضة.

قيل في تفسير ذلك، بحسب مؤلف «سينما مصر»، إن سبب رفع الفيلم اعتراض الجالية اليهودية المصرية على اسم «شمشون»، وتقديمه كفتوة شرير وشرس، بينما هو من أبطال اليهود الدينيين في التوراة، ومن قُضاتهم المختارين، وفي «سفر القضاة» من الكتاب المقدس تفاصيل قوته الخارقة، وحكايته مع «دليلة» التي سلبته هذه القوة بحلاقة شعره، ثم قصة انتقامه منها بعد أن صار أعمى، وكيف هدم المعبد عليه وعلى أعدائه.

وبالطبع كانت القصة مثيرة لصناع السينما في هوليوود الذين استلهموها في فيلم شهير بعنوان «شمشون ودليلة» من إخراج سيسيل دي ميل (1949) ومن بطولة فيكتور ماتيور، والجميلة هيدي لامار.

يبدو الأمر منطقيا بالطبع (أي اعتراض الجالية اليهودية في مصر وقتها على عنوان الفيلم)، وهو اعتراض شكلي على الاسم، وإن دفع ذلك البعض إلى القول بأن الاعتراض يمتد إلى مضمون الفيلم المعادي لإسرائيل، التي كانت وقتها دولة جديدة، أو بمعنى أدق الإسقاط السياسي في الفيلم على احتلال اليهود لفلسطين، وذلك من خلال شخصية «شمشون» الذي ينجح سكان الحارة، وبطلهم الشعبي الفهلوي «لبلب» في طرده، بعد إهانته بسبع صفعات، ورقم سبعة من الأرقام ذات الدلالة في الديانة اليهودية وطقوسها وبل وفي تاريخ وتراث اليهود عمومًا.

-3-

وهكذا يبدو الفيلم كأمثولةٍ شعبية «أليجوري"، لم يكن ينقصها إلا عبارة «كان ياما كان"، حدوتة تُروى عن الفتوة المستقوي «عنتر" الذي جاء ذات يوم إلى الحارة الهادئة، وضع قدمه فيها بصنعة لطافة، وبقوة جسد، وبتأثير ثروة فاحشة، وكان يريد أيضًا أن يخطف حبيبة لبلب الجميلة، مع أن عنتر متزوج، مطعم لبلب الفقير لن يصمد أمام كازينو عنتر، ورضوان والد لوزة، لا يمانع في أن يبيع ابنته للأقوى والأكثر ثراء، وهو المصري الوحيد المتواطئ مع الغريب، والذي لا يكره لبلب، والدور من الأدوار الشريرة القليلة التي لعبها الفنان الراحل القدير عبدالوارث عسر.

ولكن لبلب لا يقدم هنا كرجل يبحث عن بطولة، فقد تورط أصلًا في التحدي بأن يصفع غريمه سبعة أقلام (صفعات)، فإن نجح في ذلك، رحل المحتل، وحصل لبلب على حبيبته لوزة، بل وحصل أيضًا على «الكازينو»، وهو كما اتفقنا قاعدة المحتل في الحارة، أو مسمار جحا لتبرير الوجود الدائم.

زلة لسان من لبلب تتحول إلى معركة، يكتشف فيها لبلب أنه أقوى بحب الناس، وبحب لوزة، وبذكائه وبفهلوته، والفيلم يوظف الفهلوة المصرية الشهيرة في مسارها الصحيح، ويزيد من شعبية لبلب مع كل صفعة، ثم يقيم زفة شعبية غنائية تذكرنا بطقس «التجريس» الشعبي الذي كان يقصد به تجريس اللصوص في الماضي، ولكنه تجريس «غيابي» لا يظهر فيه عنتر، والحقيقة أن كل عملية فدائية في القنال، وكل حفاوة وفرحة شعبية بها، كانت تقوم بتجريس حقيقي للاحتلال البريطاني، وكانت تثبت فشله في البقاء، ولذلك كان الرد على هذه العمليات عنيفًا للغاية، ووصل إلى ذروته بمجزرة رجال الشرطة الشهيرة يوم 25 يناير في عام 1952، وفي اليوم التالي مباشرة حدث حريق القاهرة.

-4-

كل زفة كانت تجريسًا وفضيحة شعبية، والهدف من الصفعات هو نفسه الهدف من عمليات نوعية تثبت القدرة الشعبية، وفشل المحتل في حماية نفسه، بل إننا نشاهد خادم عنتر الذي لعب دوره عبدالغني النجدي، وهو يسخر من مخدومه، الذي فضحه بتلقي الصفعات، تدريجيا يتحول شمشون إلى شخص جبان، يحاول الاختباء من صفعات لبلب في قسم الشرطة، بل رضوان، المصري المتواطئ، التفاوض مع لبلب لإيقاف صفعات المقاومة، مقابل الحصول على بعض المال.

وهنا يتضح تماما هدف الفيلم، إذ يرفض لبلب تماما فكرة التفاوض، مؤكدًا أنه تجربة فاشلة، ثم يقول عبارته الشهيرة: «إما الجلاء، أو القلم السبعاء»، وهي عبارة لا تحتمل أي شك في أن المقاومة هي الخيار الوحيد، وهو يقصد جلاء عنتر عن الحارة، الذي، كما أوضحنا، هو المعادل الموضوعي الذكي، لجلاء الإنجليز عن معسكراتهم في قناة السويس.

ومع كل صفعة يصفعها لبلب لعنتر لا بد من زفة الموسيقى «الوطنية» على طريقة أشهر فرقة شعبية، وهي فرقة حسب الله، التي تغني لها المطربة حورية حسن أغنية جميلة، تغني لحبيبها المنتصر من كلمات فتحي قورة:

«وكل قلم على خده يرنّ

يخلي القلب يا روحي يحن».

-5-

رحل الإنجليز عن خط القناة بالكامل في عام 1954 عقب توقيع اتفاقية الجلاء، وحاولوا احتلالها مجددًا في أحداث العدوان الثلاثي عام 1956 عقب إعلان الزعيم جمال عبدالناصر تأميم قناة السويس، ثم رحلوا عنها مكللين بالخزي والعار، واحتل الإسرائيليون شبه جزيرة سيناء في 1967، ثم تلقوا الهزيمة الساحقة المذلة في 73 واضطروا للانسحاب الكامل من سيناء.

وظلت أمثولة الفيلم حاضرة، في قدرة الناس البسطاء على هزيمة الغرباء الأقوياء، وظلت فكرته لامعة في أن المصريين يفعلون كل شيء، حتى المقاومة، وهم يسخرون ويضحكون، وأنهم أهل اللطافة والمفهومية، يصفعون بالأكف وبالنكات، يغنون ويحبون ويضحكون، ويحملون حكمة الأسلاف في الصبر والمكر، ويعرفون بالضبط طريقة التعامل مع «الجار السوّ»، وعندما يقفون معًا لا يقهرهم أحد، حتى لو كان في قوة شمشون.