No Image
ثقافة

نهج "التجديد" في سيرة الشيخ أمين الخولي

04 مايو 2024
04 مايو 2024

(1)

أتصور -والحديث ما زال متصلًا عن الشيخ المصلح المجدد أمين الخولي (1895-1966)- أن صاحب «أثر الإسلام في إصلاح المسيحية»، وهو بالتأكيد يعد واحدًا من رواد الفكر المصري والعربي الحديث والمعاصر في النصف الأول من القرن العشرين، لم يحظ بما هو جدير به من درس واهتمام لوضعه في مكانته من تاريخ الفكر، صحيح أن كتاباته الفلسفية واللغوية والأدبية لقيت اهتمامًا كبيرًا ومقدرًا، غير أن مؤرخي الفكر لم يمنحوه ذات الاهتمام الذي يضعه في مكانته من تاريخ فكر النهضة والاستنارة، بالرغم من ثراء إسهاماته.

ومن الضروري، قبل الشروع في الحديث عن الأدوار التأسيسية التي لعبها الشيخ في مجال التجديد، وفي البحث العلمي الأكاديمي، وفي تأسيس التيار الفكري والثقافي الذي تجمع حول اسم "الأمناء" (وسنعرض لتعريفه تفصيلًا بعد قليل)، من تعريف مركز ومكثف بأمين الخولي الذي ربما يقرأ عنه الآن شاب في مقتبل العمر، ولم يسمع به من قبل أو لم يقرأ له شيئا وهو من هو!

(2)

ولد الشيخ أمين الخولي، في الأول من مايو عام 1895 في قرية شوشاي، إحدى قرى محافظة المنوفية بغرب الدلتا بمصر، وتلقى تعليمًا تقليديًا في الكتّاب، ثم انتقل إلى القاهرة ودرس في مدرسة «ماهر» على مقربة من حـي القلعة، ثم انتقل إلى مدرسة القضاء الشرعي، حيث أتم دراسته في قسميها الابتدائي والعالي، وفي أثناء دراسته اندلعت ثورة 1919، الثورة الشعبية العظمى في تاريخ المصريين في القرن العشرين، فكان من المشاركين فيها. ثم تخرج في مدرسة القضاء الشرعي عام 1920، واختير ليعمل بالتدريس فيها وليرأس تحرير مجلتها الشهيرة حينئذ «مجلة القضاء الشرعي».

وفي هذه الفترة وضع أمين الخولي رسالته عن "آداب البحث والمناظرة"، ثم اختير إمامًا للمفوضية المصرية في روما عام 1923، ومنها انتقل إلى برلين قبل أن يعود إلى مصر، وفي أوروبا انتبه إلى دراسة جوانب الحضارة والثقافة الغربية الحديثة، وتعلم اللغة الإيطالية، وأجادها بل وكتب بها رسالته الشهيرة «صلة الإسلام بإصلاح المسيحية» التي صدرت في طبعات عدة.

وعندما سافر إلى ألمانيا، للعمل واعظا وإماما للسفارة المصرية هناك، تعلم الألمانية وقطع في إجادتها أشواطا حقيقية، لكنه اضطر للعودة إلى مصر عقب إلغاء وظيفة الوعاظ والأئمة الملحقة بالسفارات الخارجية، فعاد عام 1927 ليعمل في قسم تخصص القضاء الشرعي بالأزهر.

وتصادف أن ألغيت مدرسة القضاء الشرعي، وكان اسمه حينذاك ملء السمع والبصر، وبرز اسمه كأحد أفضل وأنبه مدرسيها، ما دفع الدكتور طه حسين، وهو نجم كلية الآداب في ذلك الوقت بالجامعة المصرية الوليدة إلى الاستعانة بالشيخ ليكون ضمن أعضاء هيئة التدريس بكلية الآداب، قسم اللغة العربية وآدابها، ويستهل مرحلة من أخصب وأزهى مراحلها الفكرية والتعليمية تكاد تكون هي المرحلة الذهبية في تاريخ هذه الكلية، بل والجامعة بأكملها.

وهكذا وقع عليه الاختيار عام 1928 لينتقل مدرسًا للأدب في كلية الآداب، ويتدرج في مناصب هيئة التدريس بها حتى أصابته حركة التطهير في الخمسينيات من القرن العشرين فنقل مستشارًا فنيًا لدار الكتب المصرية، ثم مديرًا عامًا لإدارة الثقافة العامة في وزارة التربية والتعليم، حيث قضى عاميه الأخيرين في خدمة الحكومة قبل أن يحال للتقاعد عام 1955. وفي عام 1961 عين عضوًا عاملًا في مجمع اللغة العربية، وقد ألقى في المجمع بحوثًا أصيلة منها: «لسان العرب اليوم»، و«تحرير أفعال التفضيل من ربقة قياس نحوي فاسد».

(3)

خلال تلك العقود، برزت نزعات الشيخ النقدية، العقلانية، "التجديدية" صريحة واضحة في تناول القضايا الإسلامية والأدبية، وأطلق صيحته الفكرية الشهيرة عن التجديد بأنه "قتل القديم فهمًا ودرسًا" للوصول منه إلى الجديد، وراد طريقا مميزا أثمر مدرسة رائعة لم يكتب لها الاستمرار للأسف الشديد، لكنه ظل على قناعته وإيمانه بمنهج التجديد، وقد عبر عن رؤاه وأفكاره النظرية حول هذا المنهج التجديدي في كتابه الأشهر والأهم «مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب» (1961)، وامتد في اهتمامه بالتجديد إلى دراسة سير حياة بعض رواده في كتابه: «المجددون في الإسلام» (1965)، وعرض بعضًا من آرائه اللغوية في كتاب بعنوان «مشكلات حياتنا اللغوية» (1958)، كما عرض لآرائه في الأدب ومنهج دراسته في كتابين، هما: «في الأدب المصري: فكرة ومنهج» (1947)، و«فن القول». وله محاضرة مشهورة عن «البلاغة العربية» (1931) وكان طموحًا للامتداد بعلم البلاغة إلى الآفاق النقدية، بدلًا من بقائها مقتصرة على الجملة وألفاظها. وإليه يرجع الفضل في ربط دراسة الأدب العربي (في الجامعة المصرية) بعلم النفس وعلـم الاجتماع، وقد كان من أوائل الذين عولوا على دراسة أثر البيئة في الأدب والأديب، وقالوا إن شعر الشاعر ونثر الناثر صورة من نفسه، وواصل مزج دراسة علوم الاجتماع بدراسة الأدب.

ومن بين شخصيات العصر الإسلامي ترجم الخولي لشخصيتين هما أبو العلاء المعري، في كتاب: «رأي في أبي العلاء» (1944)، ذهب فيه إلى إثبات تناقض أقوال أبي العلاء وإلى أن هذا التناقض لا يدل على فلسفة، والإمام مالك في كتاب «مالك بن أنس: ترجمة محررة» في ثلاثة أجزاء (1951)، و«مالك: تجارب حياة»، وكان معتزًا كثيرًا بدراستيه عن مالك، مما جرّ عليه كثيرًا من النقد.

(4)

كان الشيخ أمين الخولي مدرسًا موهوبًا أُعطي ملكة الحديث والمشافهة والمحاضرة، فشملت نشاطاته التدريسية كلية أصول الدين في الأزهر، حيث درّس مواد "الأخلاق" و"الفلسفة" و"تاريخ الملل والنحل"، كما رأس قسم اللغة العربية في معهد الدراسات العليا للمدرسين، وحاضر في معهد الدراسات والبحوث العربية والمعهد العالي للدراسات الإسلامية، وكان يجهر بدعواه إلى تجديد الدراسة القرآنية على أساس علمي عصري يدرك المفهوم العلمي والمفهوم البياني في إعجاز القرآن، ويدعو إلى الفهم الواعي الدقيق لكل كلمة قرآنية من خلال مواضعها المختلفة في النص القرآني.

وفي ثنايا ذلك، جمع محاضراته في تاريخ الأديان «تاريخ الملل والنحل» (1935)، كما عُني بتاريخ الفلسفة في «كُناش في الفلسفة وتاريخها» (1934)، وله كتاب عن «تاريخ الأزهر في القرن العشرين». وألقى الشيخ الخولي سلسلة أحاديث إذاعية بعنوان «من هدي القرآن» ثم جمعها في ثلاثة كتب؛ هي «القادة والرسل» (1952)، و«في أموالهم» (1952)، و«في الحكم».

كان الشيخ أمين الخولي مغرمًا بالفنون مقدرًا لها، وكان شديد الحب للرسم والموسيقى بوجه خاص، وكان من أشد المؤمنين بنظرية وحدة الفن: كلمة ونغمة وصورة وتمثيلًا. وقد أصبحت ابنته سمحة الخولي واحدة من كبار المتخصصين في الدرس الموسيقي وتذوقها وتاريخها.

وفي بواكير حياته ألف مسرحية «الراهب المتنكر»، وقد مثلت هذه المسرحية في دار الأوبرا (1917)، لكنها لم تعرض باسمه الصريح، وإنما عرضت باسم «كاتب متنكر». وقد نشر النص الكامل لهذه المسرحية في مجلة «الأدب» عقب وفاته.

ولأمين الخولي بحوث أخرى عن السياحة الإسلامية، والجندية الإسلامية، وقد أشرنا إلى أن له بحثًا مهمًا عن «صلة الإسلام بإصلاح المسيحية» قدمه بالإيطالية، وإلى هذا البحث يرجع الفضل في الحديث الواضح والمبكر من جانب علماء المسلمين عن تأثر مبادئ الإصلاح البروتستانتي بالعقيدة الإسلامية، وفي تقديم أدلة قوية على حدوث هذا التأثر.

(5)

وقد شارك الشيخ أمين الخولي في مؤتمرات المستشرقين في ميونيخ عام 1957، وموسكو عام 1960. كما تولى التعقيب والتصحيح للأجزاء الأولى من دائرة المعارف الإسلامية. وللشيخ الخولي كتاب عن العلاقات المصرية ـ الروسية بعنوان «صلات بين النيل والفولجا»، نشر بالألمانية والروسية وطبع في موسكو..

هذه إطلالة سريعة على سيرة الشيخ وحضوره العلمي والأكاديمي ومؤلفاته العلمية، أما أثره الإنساني والعلمي في نفوس تلاميذه فسيظهر فيما عرف بجماعة الأمناء" وهي من أشهر الجماعات الأدبية والفكرية والثقافية التي ظهرت في تاريخ الثقافة العربية في القرن العشرين.