نجيب محفوظ في مكتبه الحكومي
نجيب محفوظ في مكتبه الحكومي
ثقافة

مرفأ قراءة... رؤية النقاش النقدية لأدب نجيب محفوظ

18 يونيو 2022
18 يونيو 2022

- 1 -

ثمة نوعية من الكتب التي تحتل بمجرد صدورها مكانة خاصة في مكتبة أو مدونة المجال المعرفي الذي تدور في فلكه أو الموضوعات التي تعالجها، ولهذا فحين تصدر طبعة جديدة من نوعية هذه الكتب خصوصا إذا بعدت المسافة بينها وبين آخر طبعاتها لما يزيد على السنوات العشر.

بهذا المعنى أعتبر صدور طبعة جديدة من كتاب الناقد الراحل الكبير رجاء النقاش بعنوان «في حبِّ نجيب محفوظ» (صدرت الطبعة الجديدة عن دار الشروق قبل أشهر قليلة) حدثا نقديا مهما، خصوصا أن هذا الكتاب لم يعد طبعه منذ 2006، وهو واحد من الكتب النقدية الشاملة التي عالجت أدب نجيب محفوظ برؤية كلية دقيقة وتابعت تطوراته الإبداعية والأسلوبية وفي الرؤية والجماليات منذ بدايات محفوظ وحتى وفاته.

في هذا الكتاب المهم جمع رجاء النقاش حصاد قراءاته ومتابعاته وتحليلاته لأدب نجيب محفوظ؛ أعماله الروائية والقصصية، والقضايا الفكرية والسياسية والإبداعية التي تفجرت في وجه نجيب محفوظ لسببٍ أو لآخر، منذ الخمسينيات وحتى رحيله في 2006.

- 2 -

كانت البداية في جريدة «أخبار اليوم»، التي كان يكتب لها مقالاً أسبوعياً في النقد الأدبي وكان، أيامها كما يقول جابر عصفور، منغمساً، بكتابة مقالات عن «العالم الروائي عند نجيب محفوظ» الذي كان قد استقر على عرش الرواية العربية من دون منازع، ثم وبعد ذلك تتابعت المقالات من كل اتجاه فكتب كل من يحيى حقي ولويس عوض (وأخوه رمسيس عوض)، وعبد القادر القط، وسهير القلماوي، وأحمد عباس صالح، ومحمد مندور، وغيرهم من كبار النقاد في الستينيات من القرن الماضي.

ولكن رجاء النقاش آثر أن يرى روايات نجيب محفوظ بعدسة نقدية مغايرة، فاكتشف جوانب لم يكتشفها أساتذته، وكان لما اكتشفه أبلغ الأثر في إعجابي به بوصفه ناقداً أدبياً واعداً، مرهف الإحساس، فقد كان نقده لا يقل أهمية ولا قيمة عن نقد أساتذته، بل كان يضيف إليهم ما تهديه إليه بصيرته النقدية النافذة.

وأذكر، ويذكر أستاذي الراحل جابر عصفور، على سبيل المثال، ما أجمع عليه النقاد في تناولهم رواية «الطريق» الشهيرة، حيث رأى أكثر النقاد في بطلتها "إلهام" نموذجاً للصفاء الروحي المقرون بالطريق الهادي للابن الضال، كي يصل إلى أبيه الرمزي الحقيقة المطلقة، وهناك يجد، لديه وبواسطته، الأمن والسلام والكرامة، على عكس "كريمة" التي رأوها تجســيداً لعالم الحواس والغرائز الغارق فيها الابن صابر وللاسم مغزاه، فيعجز عن الوصول إلى فيء أبيه وصدره الحنون، فإذا برجاء النقاش يقلب التفسير، ويجعل من "كريمة" موئل الروح التي لا نصل إليها إلا بعد أن نصل إلى قرارة القرار من الحــسية التي ليس بعدها سوى الروح، وذلك بمنطقٍ له بعد صوفي بمعنى أو بآخر.

- 3 -

لا تنفصل قراءة رجاء النقاش النقدية الحساسة لنصوص محفوظ، عن مجمل رؤيته وممارسته النقدية العميقة لكل النصوص والكتاب الذي تناولهم بنقده طوال مسيرته، فقد ظل النقاش يرى في الناقد قارئاً خبيراً، اكتسب تجارب عميقة من طول معاشرة النصوص الأدبية والغوص فيها، ولذلك جعل دور الناقد أشبه بدور الوسيط الذي يجمع بين طرفين يحبهما، النص الأدبي والقارئ معا، مؤكداً هذا البعد بنقده التطبيقي الذي يسعى إلى إيصال معنى النص إلى القارئ في بساطةٍ آسرة، بعيدًا من التقعر أو التقعيد، أو التنظير المتعالي، أو التقليد الساذج لنقد آخر، أجنبي على وجه الخصوص، وكانت نصوصه النقدية، في معظمها، رسائل محبة إلى القارئ عن نص محبوب، فقد ظل رجاء أميل إلى الكتابة عن النصوص التي يحبها، والتي يهتز بها، ولم يكتب عن النصوص التي نفر منها أو رآها عديمة القيمة.

بهذا المعنى نستطيع أن نفهم لماذا اختار رجاء النقاش لكتابه عنوان «في حب نجيب محفوظ» الذي وقع في هواه وفي غرامه منذ كان صبيا في قريته منية سمنود، وأترك النقاش يحكي بنفسه قصة هذا الحب الكبير:

"أحببت نجيب محفوظ وأنا شاب صغير في الأربعينيات منذ قرأت روايته «رادوبيس» (صدرت في العام 1943)، قد قرأتها تحت شجرة "جميز" على شاطئ النيل في قريتي "منية سمنود"، إحدى قرى "المنصورة"، ولا أستطيع بعد أن تقدم بي العمر أن أنسى أبدًا تلك اللحظة التي أصبحت فيها عاشقًا لنجيب محفوظ، أبحث عن كل كلمة يكتبها، وأتابع أخباره، وأجعل من أول وأعز أهدافي عندما جئت إلى القاهرة لأول مرة سنة 1950 لأكمل تعليمي في كلية الآداب أن أسعى للتعرف على نجيب محفوظ، وقد حققت أمنيتي هذه، عندما اصطحبني أستاذي الناقد الكبير الراحل أنور المعداوي إلى "كازينو أوبرا" ليقدمني إلى نجيب محفوظ في ندوته الأسبوعية التي كان يعقدها في ذلك الوقت كل يوم جمعة، وقصة تعرفي على نجيب محفوظ هي قصة طريفة كتبت تفاصيلها في أحد فصول هذا الكتاب الذي بين يديك".

- 4 -

والحقيقة أن حب رجاء النقاش لنجيب محفوظ لم يتغير أبدا، بل ازداد قوة ورسوخًا مع الأيام واستمر على هذه القوة خلال ما يقرب من خمسة وأربعين عامًا متصلة، وصاحب الفضل في استمرار هذا الحب هو نجيب محفوظ نفسه، كما يقول النقاش، فلو أن نجيب محفوظ قد توقف عند مرحلة أدبية واحدة، لتوقف الحب عند هذه المرحلة وانتهى به الأمر إلى أن يصبح نوعا من الذكريات..

ولكن نجيب محفوظ كان يتقدم ويتدفق يوما بعد يوم، كأنه "وردة" نادرة تجدد عطرها وألوانها كل صباح، وقد يرى البعض أن الحب "عاطفة" وأن النقد "تفكير وعقل"، وأنهما لذلك يتناقضان، ولكن الأمر عند رجاء النقاش يختلف تماما، فالحب عنده هو المفتاح الأول للفهم والمعرفة، والحب الصحيح القوي هو الذي يسعى إلى الكشف عن الأسباب والعوامل التي جعلت هذا الحب يولد وينمو ويعيش ويستمر على قيد الحياة.

يوضح النقاش أن الفصول التي يضمها هذا الكتاب هي فصول كتبها ما بين سنة 1956 وسنة 1996 وهي رحلة طويلة مع نجيب محفوظ فنانا وإنسانا، وتقوم كلها على أساسٍ من الحب الذي يسعى إلى الفهم، يقول النقاش: "فإن كنت تحب نجيب محفوظ مثلي فاقرأ هذا الكتاب، وإلا فإنك لن ترى فيه ما يرضيك، فعالم نجيب محفوظ لا يحتمل إلا العشاق والمريدين، والذين تعودوا على أن يفكروا بقلوبهم ويشعروا بعقولهم، وتعودوا قبل ذلك كله على أن يجدوا في الحب موطنا لهم لا يعادله موطن آخر في هذه الدنيا".

- 5 -

وقد قسم النقاش الكتاب تيسيرًا على قرائه إلى أربعة أقسام، كل منها يدور في جو خاص وموضوع رئيسي، والقسم الأول هو «من الجمالية إلى نويل»، ويتناول ما يتصل بحصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل العالمية سنة 1988 والأصداء المختلفة لهذا الحادث الثقافي المهم، أما القسم الثاني فيتناول تحليلا نقديا وافيا لعدد من أهم روايات نجيب محفوظ يأتي على رأسها «اللص والكلاب» و«الطريق» و«أولاد حارتنا» و«الحرافيش»، وقد جعل له عنوانًا هو «الفن والإنسان في أدب نجيب محفوظ»، ولربما جاء هذا العنوان إيمانا منه بأن عملية التقييم النقدي المرتبطة بالتفسير أن للأدب وظيفة إنسانية، تجاوز لغتها إلى غيرها من لغات العالم، وأن الغوص إلى قرارة القرار الإنساني من المحلية هو الطريق إلى العالمية، وأن الأديب المؤثر حقا هو الأديب الذي يتميز إلى جانب عمق مشاعره وصدق إحساسه بحرصه على التواصل مع قرائه، والوصول إلى أوسع دائرة من المتلقين، غير ناسٍ أنه ينتسب إلى مجتمعات تغلب عليها، بل تتزايد، الأمية ولعل هذا المبدأ هو الذي كان يحكم ممارسة النقاش النقدية في كل أعماله (وفي نقده للشعر كما في نقده للمسرح والقصة والرواية معا).

ويتناول القسم الثالث موقف النقد العربي من نجيب محفوظ، وبعض القضايا العامة التي تدور حول نجيب محفوظ، وقضايا أخرى كان نجيب محفوظ طرفا مؤثرا فيها، وجاء عنوان هذا القسم هو «قضايا ومواقف»، أما القسم الرابع والأخير فهو فصول متنوعة كتب النقاش جزءا منها قبل محاولة اغتيال نجيب محفوظ في 1994، وكتب الجزء الآخر منها بعد محاولة الاغتيال، وقد جعلت عنوان هذا القسم «متفرقات»... (وللحديث بقية)