No Image
ثقافة

نحات الشعر المستيقظ

08 مايو 2024
08 مايو 2024

هكذا أتخيله: يخرج في عزّ حلـمنا، ومن أوار ضباب مدينتنا، متسللاً من بيته في الطيرة أو كوبر، حافياً، تاركاً الزوجة ورسائل الشعراء الإلكترونية ولفافات التبغ "ومسجات" الابنين الشابين والكتب والعربة، بقميص مفتوح الأزرار، نصف عار، بعشاء خفيف، وشعر طائش ويدين متحررتين. ثمة ساعة ثمينة تنتظره بصمت في يد ليله، لا تضيء لسواه. تحصي له ذاكرات الطرق ووجوه الزمن، وتهيّج أجساد الأمكنة، خفيفاً مثل حب مفرط في قدمه، وبلا زوائد، بلا أصداء لأي فعل أو صوت، يخرج من بيته نحات الكلام العزوف عن الـمقاهي والضوء والثرثرة وشتائم الـمثقفين، مخبئاً بوعي شديد وقسوة رحيمة حنجرته الـمرهقة بالتبغ والفخامة الصوتية التي تجنن البنات في خزانة الـملابس، مستبدلاً إياها بذاكرة ثقيلة يدفنها نهاراً تحت تراب حديقة الـمنزل، ينبشها ليلاً بعينيه الصامتتين، يدسها في كيس أزرق اللون، يحملها على كتفه الخافت، ماضياً بها إلى ذاكراتها الـمنتظرة وأسئلتها الـمعتّقة التي لـم تجب عنها ومراياها الـمسروقة. يزرع كلـماته وصوره وعباراته هنا وهناك، عند الـمنحدر وفوق التل وخلف نهد السيدة، وعند الحرش وأمام الحكاية، وفي أول الدخان ومنازل الصبار وعلى حواف البئر وصباحات الأموات وسدة السقف وفي عين حراس الكروم، وتحت الجسر وبجانب النهر، ببطء ظل، وخفر مراهقة.

معلـم في التذكر هذا الشاعر، معلـم في تصفية الكلـمات من غبارها وغنجها وثقل دمها وأردافها وعنوستها ودهنها وفجاجتها اللينة والصلبة، في نحتها وتقليبها بين يديه وصقلها وتدليكها وتحميمها.

شاعر متأن يعشق الـماء، يحمم كلـماته بفرح وينشفها جيداً خوف انتشار الفطر، ثم يقدمها لنا على طبق من قش ودهشة وهمس.

في تجربته الشعرية بشكل عام، وديوانه تحديدا (كطير من القش يتبعني) بشكل خاص يواصل النحات الـمستيقظ أبداً، مشروعه الشعري والسردي، الذي ألخصه في عبارة واحدة: "عقد قران صامت وحافل بين العريس الغد مع العروس الذاكرة" ــ وهو العرس الذي سيدهش ويسكر الكثيرين ويثير غيظ البعض ــ ليستنبت زهر الـمستقبل من حديقة الأمس الـمهملة. لا أعرف شاعراً فلسطينياً يمارس جماليات التذكر مثل هذا الشاعر، كلنا نتذكر ونزور مدننا وأصدقاءنا وغرفنا القديمة وحاراتنا ونساءنا الطاعنات الآن في الـموت والـمدن والأولاد وننادي الـماضي بطرقنا العادية، لكننا سرعان ما نجد أنفسنا مبللين بالأنين والندم والدموع والأسئلة؛ لهذا الشاعر طريقته الـمميزة جداً في استدعاء ممتلكاته الـمتروكة من أنهار ومدن وحبيبات وصور أمهات وطرق وأصدقاء وطفولات وأموات وبلاد كبيرة. لا يحشد نحاتنا كلـمات مدوية، هو لا يؤمن بالرنين، يكره الأجراس أصلاً، غير شغوف بكلـمة الحنين، هذا لا يعني أن العواطف غائبة في عالـم شاعرنا، هي موجودة ولكنها تتحوّل ذكية وماكرة إلى حكمة وبدايات وإقامة وطقس، النحات يزور أطراف مدن وأصدقاء الأمس، لا يدخلها، فدخولها قتل لشعريته وتورط في الذهول العادي الفارغ، يحوم الشاعر حول أشيائه التي لفها الزمن بين جناحيه، هو متعلق بالأشياء والروائح والأمكنة القديمة، يداعبها بعينيه وروحه، يصفها، يموتها، يعيشها، لا يسألها، لا يلومها، لا يمدحها، أيضاً لا يستجوبها كما يفعل الكثيرون ساردين وشعراء، نحاتنا، أيضاً، يؤمن بطاقة اللـمس والتلامس الخفيفين للأشياء، إنه يزور أشياءه لـمساً وتلامساً أو شماً، هو يكتفي بذلك، لا يعترف بالعناق والتظاهر والكلام الكثير والصياح والقعقعة اللغوية والإنشاء واللطم والرومانسية الـمتعفنة والندب، لا يحب الاقتراب الشديد كما حياته تماماً، هو شخص متجنب وخجول ويفضل الحياة في أطراف الـمدن لا في وسطها، هو شاعر أطراف الأشياء لا مركزها، "أكثر الناس حزناً وقلقاً وانفعالاً هم الذين يمشون على أطراف الجنازات والـمسيرات!!" إنه يعرف أن الحقيقة والجوهر دائماً هناك عند طرف الـمدينة، أو الشيء، لا في وسطها، من هناك يستطيع أن يرى ذرى التلال، يحسها، يكتشفها.

في شعره كل حرف في مكانه تماماً، كل جملة تستريح في حيزها دون تزاحم أو عبث أو فوضى، لا خلخلة، لا اضطراب، لا عبارات غير راضية عن نفسها.

هو مهندس إيقاع ماهر، لا يسمح بترهل أو بحة في صوت أو تجعد في نغمة، أو خطأ في التناسق. فلسطين هنا مختصرة بذاكرات حب كامن وهادئ وكبير يتغلغل في الانحياز الإنساني أولاً للأماكن والأموات. النثر في الديوان ضيف عزيز جداً، بل هو حبيب القلب الشريك الحميم في غرفة النوم وفي استعمال الـمنشفة أو فرشاة الأسنان نفسها، انظروا كلـمة القش في عنوان كتابه: "كطير من القش يتبعني"، هل طيور القش التي تطارده هي الذكريات؟ انظروها وهي تستفز فينا الرغبة السريعة في اللـمس الناعم والحذر الـمتكسر لكومة قش تتقصف وتنحني بين أصابعنا؟. ألا تبعث فينا الخوف من التفكك والتشتت؟ كما عيدان قش نحيلة تتباعد عن نفسها تحت مخالب صقر جارح؟؟ كم هو جميل أن نعرف أن شاعر اللـمس والتلامس الخفيفين هذا هو من برج السرطان وهو البرج الذي يعشق سكانه الدفء والـماء والـمشي في الطرق البعيدة والحب وزيارة الألـم والأصدقاء والتجديد والتقشف والعزلة والذكريات والبيت والأم والخسارات الجميلة.

وهي كلها مفاتيح أو ثيمات عالـم هذا الشاعر الذي اسمه غسان زقطان.