ثقافة

اختفاء طبعات بوشكين النادرة من مكتبات أوروبا

08 مايو 2024
08 مايو 2024

في ابريل 2022، وبعد قليل من غزو روسيا لأوكرانيا، جاء رجلان إلى مكتبة جامعة تارتو ثاني كبرى مدن إستونيا. قالا لأمناء المكتبة إنهما أوكرانيَّان هاربان من الحرب وطلبا الرجوع إلى طبعات القرن التاسع عشر من أعمال لألكسندر بوشكين شاعر روسيا الوطني ونيقولاي جوجول. قالا بالروسية إنهما رجل وابن أخته يبحثان في موضوع الرقابة في روسيا القيصرية حتى يتسنى لابن الأخت التقدم للحصول على منحة دراسية في الولايات المتحدة، وفي لهفة على المساعدة انصاع أمناء المكتبة، وقضى الرجلان عشرة أيام يدرسان الكتب.

بعد أربعة أشهر، خلال الجرد السنوي الروتيني اكتشفت المكتبة أن ثمانية كتب رجع إليها الرجلان قد اختفت، ووضعت بدلا منها نسخة مطابقة بجودة عالية لا يمكن أن تكتشفها إلا أعين الخبراء. قالت كريستا مديرة المكتبة "إن الأمر كان رهيبا، وإن قصتهما كانت محبوكة للغاية".

في أول الأمر، بدت تلك واقعة مفردة جرت لمكتبة إقليمية تعيسة الحظ. لكنها لم تكن كذلك. فالشرطة الآن تحقق في ما تعتقد أنه سلسة واسعة ومرتبة من سرقات تتعرض لها المكتبات في أرجاء أوروبا وتستهدف الكتب الروسية النادرة المطبوعة في القرن التاسع عشر، وهي بالأساس طبعات أولى أو مبكرة من بوشكين.

منذ عام 2022 اختفى أكثر من 170 كتابا تقدَّر قيمتها بـ 2.6 مليون دولار ـ بحسب ما أفادت به الشرطة الأوروبية ـ من مكتبة لاتفيا الوطنية في ريجا، ومكتبة فيلنيوس الجامعية، ومكتبة ولاية برلين، ومكتبة ولاية بافاريا في ميونخ، ومكتبة فنلندا الوطنية في هيلسنكي، ومكتبة فرنسا الوطنية، ومكتبات جامعية في باريس وليون وجينيف ومن جمهورية التشيك. ولحقت الضربة الكبرى بمكتبة جامعة وارسو إذ فقدت 78 كتابا.

تقدر قيملة كل كتاب من هذه الكتب بما بين عشرات ومئات آلاف الدولارات. وفي أغلب الحالات استبدلت بالكتب الأصلية نسخ عالية الجودة تحاكي حتى ثنيات أطراف الصفحات ـ في دلالة على تطور العملية. ويقول الخبراء إن اختفاء هذه الكثرة من الكتب المتشابهة من هذه الكثرة من البلاد في مدى زمني قصير نسبيا هو أمر غير مسبوق. وقد دفعت هذه السرقات المكتبات إلى تعزيز احتياطاتها الأمنية وجعل التجار يتحلون بحذر شديد تجاه مصادر الكتب الروسية.

الطريقة التي أصبحت بها الكتب الروسية النادرة في مركز مخطط إجرامي دولي محتمل تمثل قصة مال وسياسة بقدر ما تمثل قصة تزوير احترافي وقدرات أمنية مكتبية فاترة. وتعتقد السلطات، وأمناء المكتبات، وخبراء الكتب الروسية النادرة أن اللصوص سمكات صغيرات تعمل بالنيابة عن سمكة ضخمة. ولكن من وراء هذه السرقات، وما الدوافع إليها؟ هذان سؤلان يبقيان بلا أجوبة.

شهدت السنوات الأخيرة بيع طبعات أولى من أعمال كتَّاب العهد الذهبي الروسي بمبالغ مؤلفة من خمسة وستة أرقام في المزادات الغربية. ويقول خبراء إن لهذه الكتب اليوم في روسيا سوقا مزدهرة حيث تحظى بقيمة ثقافية ووطنية هائلة. ولا تستبعد السلطات الفرنسية وجود حملة برعاية الدولة لاستعادة كنوز روسيا إلى الوطن.

وبحسب ما أفادت به الشرطة الأوروبية، فإن السلطات اعتقلت تسعة أشخاص متصلين بهذه السرقات. فتم اعتقال أربعة في جورجيا في أواخر ابريل، ومعهم أكثر من مئة وخمسين كتابا. وفي نوفمبر وضعت الشرطة الفرنسية ثلاثة مشتبهين رهن الاعتقال. وأدين شخص آخر في إستونيا وثمة مشتبه خامس في ليتوانيا.

تقوم وحدة خاصة من الشرطة الفرنسية معنية بمكافحة السرقة الثقافية بالتحقيق داخل فرنسا بالتنسيق مع أوروبا. وتطرح السلطات صورة لشبكة شركاء، منهم أقرباء، يسافرون في أوروبا بالحافلة ومعهم بطاقات مكتبية ويحملون في بعض الأحيان أسماء منتحلة لاستكشاف الكتب الروسية النادرة، وصنع نسخ عالية الجودة، ثم وضعها بدلا من الأصول، بحسب ملفات جنائية اطلعت عليها نيويورك تايمز.

وقد نشرت صحيفة لو باريسيان اليومية تحقيقا عميقا حول التحقيق في القضية التي يطلق عليها اسم "عملية بوشكين". وقد امتنع الكولونيل أوبرت بيرسي دو سيرت رئيس وحدة الشرطة الثقافية في فرنسا عن التعليق على التحقيق الجاري.

بوشكين أيقونة وطنية في روسيا له فيها مثل مكانة شكسبير مع إضافة ألفة صديق. شاعر رومنتيكي، وروائي، ومسرحي، وأرستقراطي، وداعية للحرية، وكاتب في الحرية والإمبراطورية، أدخل الأدب الروسي، واللغة الروسية نفسها، في الحداثة قبل موته في مبارزة سنة 1837 عن سبعة وثلاثين عاما.

قال أندريه ماركوفيتش مترجم بوشكين المرموق إلى اللغة الفرنسية إن"روسيا على مدار السنوات المئتين الماضية لم تعرف أربعة عناصر فقط في الطبيعة وإنما خمسة، فخامسها بوشكين".

كان كل زعيم في روسيا يحتضن بوشكين بما يتماشى مع رؤيته السياسية، منذ القياصرة الذين وسّعوا الإمبراطورية الروسية في القرن التاسع عشر، وحتى ستالين الذي أقام سنة 1937احتفالات عامة في الاتحاد السوفييتي كله لمرور مئة عام على وفاة بوشكين حتى وهو منخرط في تصفية المثقفين وصولا إلى فلاديمير بوتين الذي استشهد ببوشكين في خطب له وأزاح الستار عن تماثيل له في شتى أرجاء العالم.

قال ماركوفيتش إن "بوشكين مرآة جميع حقب روسيا". وبوشكين في أوكرانيا اليوم أصبح بمنزلة رمز مقيت للإمبريالية الروسية منذ غزو روسيا الوحشي فأسقط الناس تماثيله.

ارتفعت أسعار الكتب المنشورة في حياة ثالوث الكتاب الرومنتيكيين الروس المقدس ـ أي بوشكين وجوجول وميخائيل ليرمنتوف ـ ارتفاعا كبيرا في السنوات العشرين الماضية، بالتوازي مع ارتفاع ثروة المقتنين الروس. ويقول التجار إنها سوق صغيرة ذات عدد قليلا نسبيا من الكتب والمقتنين الذين يحتفظون غالبا بقائمة كتب يرغبون في اقتنائها.

مات بوشكين صغيرا ومن ثم فالكتب الصادرة في "حياة" بوشكين قليلة. لقد نشر رواية "يوجين أونجين" الشعرية مسلسلة، وبيعت طبعة أولى تضم بعض الفصول في أغلفتها الأصلية بأكثر من 467 ألف جنيه بريطاني (581 ألف دولار) في مزاد بصالة كريستي سنة 2019.

ولقد أدت العقوبات الغربية المفروضة على روسيا بعد غزوها لأوكرانيا إلى منع التجار في الغرب من البيع للمقيمين روسيا فأدى ذلك إلى تنشيط السوق السرية القائمة للكتب النادرة. وفي هذه السوق، غالبا ما تكون الصفقة سرية من خلال وسطاء، وبمعاملات مالية يصعب تتبعها، حسبما يقول التجار. وتمثل المكتبات أهدافا سهلة للصوص لأنها مخصصة أصلا لخدمة الجمهور، ولأنها في الغالب قليلة التمويل، وتفتقر إلى إجراءات تأمين كالتي تحظى بها المتاحف وغيرها من المؤسسات التي تمتلك كتبا عالية القيمة.

قال بيير إيف جيلميت، وهو تاجر من لندن متخصص في الكتب الروسية النادرة، "إن من السهل الحصول على الكتب، ومن السهل معرفة أي الكتب يجب الحصول عليه، ومن السهل معرفة القيمة".

وقال جيلميت وتجار آخرون إنه من غير المحتمل أن تظهر الكتب الروسية المسروقة من المكتبات الأوروبية في مزادات رسمية في الغرب. فقد وضعت منظمة "الرابطة الدولية لتجار الكتب الأثرية" سرقات المكتبات الأخيرة على سجلها الخاص بالكتب المفقودة.

وقال أوجست أونيل ـ نائب رئيس المنظمة ومسؤولها الأمني ـ إن المنظمة كانت على اتصال دائم بالشرطة الأوروبية لإطلاع أعضائها على السرقات. وقد كتبت مكتبة برلين في سجل الكتب المفقودة أن "على باعة الكتب أن يحذروا" مدرجة الكتب الروسية الخمسة التي فقدتها وتبلغ قيمتها مبلغا صغيرا من ذوي الأرقام الستة.

قد يصعب استيعاب هذا القدر الكبير من الكتب المسروقة في سوق الكتب الروسية الصغيرة نسبيا. لكن هذه الكتب هي أشهر الكتب في روسيا حسبما قال جيلميت وقد تكون جذابة لغير المقتنين المخضرمين فتشمل أيضا "الأثرياء الراغبين في اقتناء النفائس".

قالت الشرطة الأوروبية إن بعض الكتب المسروقة بيعت بالفعل لدور مزادات في موسكو وسان بطرسبرج "بما يجعلها عمليا غير قابلة للاسترداد". ولم تكشف الهيئة عن هذه الكتب نظرا للتحقيق الجاري.

يقول التجار إن عرض كتب روسية تحمل أختام مكتبات للبيع ليس بالأمر النادر. فقد نهب السوفييت مجموعات عائلية خاصة وأمموا مكتبات. وخلال الحرب العالمية الثانية، تعرضت مكتبات للحرق، وأخذ السوفييت كتبا من ألمانيا وأخذ النازيون كتبا من روسيا. وعندما كان الاتحاد السوفييتي ينهار، كان أمناء المكتبات الذين أصابهم الفقر يبيعون كتب المكتبات سرا في بعض الأحيان ليكفوا أنفسهم.

في القرن العشرين، تدفقت الكتب الروسية على الغرب مع بيع المهاجرين مجموعاتهم. وفي القرن الحادي والعشرين، تدفقت على الشرق مع شراء أجيال جديد من الروس لها. في 2018 أقامت صالة كريستي مزادا لأضخم مجموعات خاصة من الكتب الروسية في الغرب، كان قد جمعها إيدن مارتن، وهو محام من شيكاغو، وبلغت قيمة البيع أكثر من 2.2 مليون دولار.

أدت السرقات الأخيرة إلى ازدياد الحذر. وقالت سوزان بيني المديرة التنفيذية لاتحاد التجار الأثريين في أمريكا "إن وقوع أمثال هذه السرقات يتسبب في قلق عميق. فالمكتبات عملها هو تيسير اطلاع الباحثين والجمهور، وعندما تنتهك الثقة على هذا النحو، فإن تغييرات أمنية لازمة قد تضيق من هذه الخدمة".

يبدو أن السرقات تسببت في أكبر الغضب الشعبي في بولندا حيث الحساسية أكبر من أي عدوان روسي فعلي أو متصور. في أكتوبر، اكتشفت مكتبة جامعة وارسو ـ وهي جامعة كانت تابعة للإمبراطورية الروسية ولديها مجموعة ضخمة من كتب القرن التاسع عشر الروسية ـ فقدان 78 كتابا منها طبعات أولى لبوشكين. ربما بدأت تلك السرقات في خريف 2022 واستمرت حتى اكتشافها بعد عشرة أشهر حسبما قال متحدث باسم الجامعة.

وفيما تبدأ السلطات في أنحاء أوروبا اعتقال المشتبهين، وكلهم حتى الآن يحملون الجنسية الجورجية، تنشأ صورة شبكة محتملة. ومن الرجال المتورطين في سرقات مكتبة جامعة فيلنيوس التي فقدت 17 كتابا تقدر قيمتها بـ 440 ألف يويو (470 ألف دولار) شخص محبوس في لتوانيا. ويشتبه أيضا في تورطه في عمليات سرقة مكتبات في أماكن أخرى بحسب ملف القضية الذي اطلعت عليه نيويورك تايمز. وفي إستونيا أدين رجل بتهم تتعلق بسرقة تارتو. وقامت لاتفيا بتسليمه حيث كان يقضي فترة سجن لسرقته ثلاثة كتب من مكتبة لاتفيا الوطنية في ريجا، أحدها لبوشكين واثنان منها للشاعر الروسي المستقبلي أليكسي كروتشيونيخ الذي ابتعد عن بوشكين واستحدث لنفسه لغة شعرية جديدة.

قال مكتب المدعي العام في باريس إن الشرطة الفرنسية في نوفمبر الماضي احتجزت ثلاثة أشخاص ووجهت لهم اتهام التآمر الجنائي لسرقة 12 كتابا روسيا من مكتبة جامعية في باريس. وقال إن السلطات ربطات الجناة المزعومين بسرقة أخرى وقعت في يوليو الماضي في مكتبة جامعة مرموقة في ليون. وتم التعرف على الأشخاص أنفسهم في المكتبة الوطنية في باريس بحسب ما ورد في ملفات القضية التي اطلعت عليها نيويورك تايمز.

في الأيام الحالية، يؤدي طلب الاطلاع على طبعة مبكرة من القرن التاسع عشر من أعمال بوشكين في قاعة الكتب النادرة في المكتبة الوطنية في باريس إلى نظرات متوترة من أمناء المكتبة ومطالبات سريعة بمزيد من المعلومات حول دوافع الطلب. في العام الماضي، استولى اللصوص على ثمانية كتب لبوشكين وكتاب لليرمنتوف يقدر إجمالي قيمتها بـ650 ألف يورو (696 ألف دولار)، وهذه من أضخم السرقات التي تعرضت لها مكتبة في العصر الحديث.

وكان النمط مطابقا. دأب رجل على الحضور طوال شهور للاطلاع على كتب روسية نادرة. ولما سأله أمناء المكتبة عن طبيعة بحثه، زعم أنه لا يتحدث الفرنسية أو الإنجليزية. تشكك الأمناء، لكنهم في النهاية أتاحوا له الاطلاع. ويفترض أن الرجل سرق الكتب، بإخفائها في حمالة ذراع ملفوف بالضمادات. واستبدل بها نسخا عالية الجودة فلم يكتشف الأمناء السرقة طوال شهور.

والمكتبة الآن تحتفظ بكتب العهد الذهبي الروسي في قدس أقداسها، بجانب أندر الكتب، ومنها الإنجيل بطبعة جوتنبرج.

* راشيل دوناديو كاتبة صحفية في نيويوك تايمز

* نقلا عن نيويورك تايمز