No Image
ثقافة

عن أمل الكتابة الواهن

31 أكتوبر 2023
بين ضفتين
31 أكتوبر 2023

ما معنى أن نكتب بعد؟ لم يتوقف هذا السؤال عن مراودتي بشدّة في هذه الأسابيع الماضية وأنا مسمّر أمام جهاز التلفاز الذي أتنقل بين محطاته، من واحدة إلى أخرى، بحثا عن بصيص أمل ولو واهما أو حتى واهنا. لا شيء أمامنا سوى مشاهد الشهداء الأبرياء الذين يتساقطون بالآلاف، لا شيء سوى وحشية الآلة العسكرية الصهيونية التي تفتك بقطاع غزة وتتركه وحيدا أمام مصير يبدو مجهولا حتى الآن. لا شيء سوى هذا الدمار الرهيب الذي يلف كلّ تفاصيلنا اليومية، والذي يذكّرنا أن حياة كانت هنا، وها هي تختفي تدريجيا بعد أن مرّت عليها جحافل القتلة الذين حوّلوا كلّ شيء إلى رماد.

يطرح علينا سؤال الأدب، في هذه اللحظة بالذات، الكثير من الأسئلة؛ بل بالأحرى كل الثقافة اليوم -ثقافتنا الإنسانية- بحاجة إلى إعادة نظر ونحن نشاهد كيف تُزهق هذه الإنسانية. لا معنى لأي ثقافة إن لم تحمل في طياتها سؤال الإنسان والإنسانية. وما نشاهده اليوم، ثقافة القتل والاحتلال وتحويل الكائن البشري إلى أشلاء، وتحويل العمران إلى أطلال، وتحويل كل شيء إلى ذكرى.

ما معنى أن نكتب بعد، حين الدمار يلفنا من كلّ حدب وصوب؛ حين نعيش في «حقول من القتل» الذي لا يتوقف. مشهد واحد أمامنا تقريبا: دماء تسيل في الشوارع، تُحيل البحار إلى الأحمر، ونحن في مكاننا نتسمّر أمام الشاشات نشاهد عمليات الإعدام والحرق والذبح والقتل والقصف بأحدث الوسائل والتقنيات. أطراف بشرية مُقطعة، ورؤوس تتدحرج على الطرق.

كأن ذلك كلّه، هو المصير الفعلي الذي آلت إليه شعوبنا. لا شيء سوى صورة في صحيفة يومية، أو فيلم قصير التقطته كاميرا الهاتف، تُظهر امرأة تندب أو رجلًا ينوح فوق ركام أو طفلًا يبكي بحثًا عن والديه.

لا شيء أكثر من هذا.

صورة، ومن ثم خبر يضم بعض التفاصيل، ليطلعانا على المأساة، وكلّ لحظة هناك مأساة جديدة؛ لذلك، لا داعي للإطالة ولا داعي لكثير الكلام، ما دامت الكلمات لن تغيّر شيئًا، وما دامت الصورة، لا تثير فينا سوى حزن صغير عابر، ولفترة قصيرة مندثرة كأننا «نُوفر» أحزاننا لأشياء أخرى، نعرف أنها ستأتي. أي نعرف أن مآسي أخرى، ستظهر غدًا وربما في الشهر المقبل أو العقد المقبل وحتى القرن المقبل، لا شيء يقول لنا العكس ولا شيء يقنعنا أن عصر التراجيديات الإغريقية ولّى وانتهى لا يزال حاضرًا فينا، ما زلنا نعيشه.

هذا ما أصبحناه للأسف نقرأ الخبر أو نشاهده ونحاول أن نطرد دمعة على سبيل المثال، أو فكرة أو لعنة على هذا الكون، ما نفع ذلك ما دامت كلّ هذه الأشياء لن تغير في واقع الأمر أي شيء، ما دام القتل يلاحقنا وكأنه المصير المحتم الذي لا يمكن الفكاك منه، أو الهرب منه.

هل استعملت كلمة إنسانية في كلامي هنا؟ قد تكمن المسألة برمتها في هذه الإنسانية التي تشرف على الغروب مثلما يبدو، لنَقُل إن ثمة إنسانية تنتهي اليوم حاملة معها نهايات كثيرة: نهاية تاريخ كان ولا يزال معروفًا إلى الأمس، نهاية فكرة عن تسامح اعتقدنا أنه موجود بيننا، لكنه عمليًّا لم يكن سوى وهم من أوهامنا المتعددة. هي أيضًا نهاية جغرافيات وبلدان وربما اندثار شعوب وقوميات وإثنيات وحتى طوائف ومذاهب، الرعب لم يعد موجودًا في الآخر فقط (على الرغم من كل مشروعية الخوف منه إلى الآن). الرعب الحقيقي ينبع من داخل كل واحد منّا، «نخافنا» أكثر ممّا نخاف من أي شخص آخر.

هل يحمل كلامي أي تشاؤم؟ بالتأكيد لا أخترع شيئًا، فقط أحاول أن أصف، فكلّ التوصيفات محتملة وممكنة، بالأحرى ليست سوى توصيفات حقيقية، وبين ذلك كلّه نحاول، نحن الذين نتعاطى القراءة والكتابة، أن نبحث عن «استراتيجية ثقافية». ثمة سؤال لا بدّ أن نجده ينبثق من ذلك كله: ماذا تعني لنا بعد كلمة ثقافة وفي هذه اللحظة بالذات؟، في هذه اللحظة التي نقف فيها على مفترق الكثير من الأشياء، أقلها الحياة، بمعنى آخر، كيف علينا أن نحدد مفهوم الثقافة؟، ما هي الثقافة التي علينا أن نتحدث عنها؟

ما معنى فعلا أن نناقش في هذه اللحظات كتابا أو شريطا سينمائيا أو حفلا موسيقيا أو لوحة فنية؟ بينما الواقع يأخذنا إلى متاهات أخرى، يأخذنا إلى ما لا يمكن الهروب منه أو على الأقل تناسيه: لا شيء سوى الموت المفروض من قوى مختلفة في هذا العالم التعس والكريه، لا أفكار لديها سوى السيطرة على شعوب وتهجيرها ورميها خارج التاريخ والجغرافيا، من أجل مصالحها الخاصة. هل من معنى فعلا لذلك كله، في لحظة غروب الإنسان الحقيقي وإعادة تشكيله، ليصبح آلة تنفذ أوامر شتى؟

هل يحق لنا أن نحلم بعد بأن تكون الكتابة ملجأ، بينما هناك شعب معزول من أي ملجأ يستطيع أن يقبع فيه، كي لا يفقد حياته؟ لنتخيل هذا المشهد فقط: هذا الإنسان لا يمكنه أن يتوارى في مكان ما ساعة القصف الذي ينهمر عليه. هذا الإنسان الذي لا يستطيع دفن موتاه. وهذا الإنسان الذي جردوه من أبسط حقوقه ككائن بشري. هل تنفع الكتابة عن ذلك كله؟ حتى لو كتبناه، لا أحد يريد أن يصدق إن ذلك يحدث فعلا، ما دامت رواية القوي هي التي تسود، وهي التي تجد متسعا لها في أذهان الآخرين.

كتابتنا اليوم أشبه برسالة يخطها قبطان سفينة تشرف على الغرق، يضعها في قنينة زجاجية، ويرميها في البحر، على أمل أن تصل إلى أحد. هذا هو المشهد بالفعل: ننتظر شيئا، بالأحرى ننتظر أملا واهيا وواهنا. لعل وعسى.