No Image
ثقافة

"عطر الأوركيد الأسود"

09 أبريل 2024
09 أبريل 2024

على الرغم من أن "السريالية"، بكلّ ما صاحبها من لغط ومفارقات، لا تزال تثير "الشُبهة" عند بعض القرّاء والكتّاب والنقاد والباحثين. وبرغم أن أحدا لا يملك الجرأة الكاملة بعد على ملامسة مجد السُرياليين وخلخلته وتأنيب تصرفات "رُسلهم" الذين رحلوا بغالبيتهم عن هذا الوجود، إلا أنها أيضا تثير حنينا ما عند كثيرين، ممّن وجدوا فيها صنوا للحرية الكاملة، وعلى مختلف الصعد. بهذا المعنى، قد لا نستطيع أن ننفي اليوم أهمية التيّار الذي أسسه أندريه بروتون، حتى لنخال أن مرور الزمن يزيده شبابا. ربما لأن "التمرد" و"الجمال" هما سمتاه الأساسيتان، فتماما كما قال لابنته ذات يوم: "غدا عندما تكبرين، سأحاول أن أشرح لك ما عرفته عن الحب والحياة والثورة... ستقولين إن ذلك ليس عمليا، لكنه كان يشرفني في أي حال" ...

أستعيد السوريالية في هذه اللحظة، بسبب الكتاب الذي بين يديّ: "اللوالب المتشردة وغيرها من متوازيات غير مسبوقة في المتاهة" (عنوان سوريالي بامتياز!) الذي أصدرته مؤخرا في العاصمة الفرنسية "منشورات بلاس الجديدة" وجمعت فيه نصوصا غير منشورة سابقا أو تلك التي أصبح من الصعب الحصول عليها للشاعرة السريالية "الفرنسية" ذات الأصل المصري جويس منصور (1928-1986). كانت جويس منصور – صديقة بروتون العظيمة، والذي ساهم في شهرتها عند وصولها إلى باريس في خمسينيات القرن الماضي – تعتبر يومها "شاعرة السرياليين النسائية". ومع أن النقد لغاية الآن لا يزال يميل إلى الحديث عن عنف قصائدها الإيروتيكي فقط، إلا أن ديوان "اللوالب المتشردة..." الذي جمعته لور ميسير وكتبت مقدمته، يدفعنا فعلا إلى قراءة جديدة لعمل جويس منصور المتأرجح، بين الشعر والرسم، بما يتجاوز الأنواع الأدبية.

"أيها الشعر / أنا جائعة للحمك": تضع جويس منصور نفسها في قصائدها؛ امرأة متعطشة للكلمات والإشارات التي تدعونا لسماع صرخاتها وتخيل أجسادها. تؤكد الشاعرة على "أناها"، بصوت فريد مشبع بمزيج من العنف والقسوة والحنان. يصبح شعرها جسدًا ولحمًا، تداعبه أحيانًا، وتهاجمه أحيانًا أخرى، تشوهه، أو... تلتهمه. هو جسد مذهل ومعقد في كثير من النواحي؛ لذا من الضروري – إن كنّا قرأنا جويس منصور، أن نطل على هذه الأعمال، لأنها تقدم لنا مسالك شعرية لم نعرفها من قبل. إنها فعلا لوالب متشردة... غير مسبوقة.

لم يكن قراء منصور الأوائل – مثل بروتون، الذي أشاد بـ "عطر الأوركيد الأسود، الشديد السواد" في قصائدها، أو لاحقًا، أندريه بيير دي مانديارغ، الذي أشار إلى "العنف الذي يمكن للمرء أن يقول عنه استفزازيًا" –مخطئين. ويضاف إلى هذه القراءات وجهة نظر "استشراقية" ركزت منذ فترة طويلة على أعمال الشاعرة ذات الأصل المصري: "طفلة مسك الروم في الحكاية الشرقية"، هكذا استمر بروتون في مناداتها؛ وهكذا يبدو أن عمل منصور قد انغلق وتجمد حول استقبالات مختزلة في بعض الأحيان، كما لاحظت ميسير في مقدمتها: "لقد صدم عملها، ولا يزال يصدم، أولئك الذين اختزلوه إلى عنصره المثير [...] أو تحدثوا بتعالٍّ عن قصائدها التي كتبها [لها]... أندريه بروتون"... تحاول ميسير، من خلال تجميع هذه النصوص وعرضها، إعادة فتح أعمال جويس منصور بكل تعقيدها وغموضها، بعيدًا عن كونها مجرد صديقة غير مشروطة لبروتون، أو "شاعرة" المجموعة، لأنها "تتمتع برحلة كتابية فريدة، بين الشعر والرسم"، رحلة يكشفها هذا العمل بطريقة فعلية.

منذ العنوان، يعلن الكتاب عن الجانب المتحرك في عملها والخطوط التي ترسمها، على حدود الكتابة والصورة. اللوالب، والمتوازيات المتاهة، هي في الواقع خطوط متناقضة تعطي مضمونًا لنصوصها: "أنا دائمًا أتبع طريقي / الموازي / للطريق الذي / غير موجود". يتبع التصنيف المختار مسارا حرا، مثل شعر منصور. متحررًا من الأعراف، ويقدم هذا الاختيار شكلاً من أشكال رسم الخرائط الشعرية الخالدة: من الشعر باعتباره صرخة فردية إلى الشعر الجماعي الذي مورس داخل الحركة السريالية. وهو يؤكد على الرغبة الجديرة بالثناء في تحرير العمل من أغلاله القديمة وإعادته إلى مكانه الصحيح. عناوين الأجزاء المختلفة، المأخوذة من سلسلة ألقاب أو تعبيرات منصور نفسها، تكشف ببراعة وتضع في المقدمة قربها من التشكيل والرسم والفنون البصرية المختلفة. من "رسومات الرصيف" و"رحلات في المِشكال" إلى "مسارات طيران جديدة" و"اتّبعت الطريق الموازي"، تمتزج الصورة المرئية مع الصورة الشعرية، في تجديل غامض.

وإذا كان هذا التصنيف يشهد على براعة كبيرة في قراءة أعمال جويس منصور، وتعاطف واضح معها، فيمكننا مع ذلك أن نأسف على الافتقار إلى إطار نقدي ضروري لفهم عادل للعمل. "الملاحظات العضوية" الموضوعة في نهاية المجموعة تجسد ازدواجية هذا المشروع التحريري. تزودنا هذه الملاحظات الشعرية والحساسة بمعلومات قيمة عن عمل سريالي غني بشكل خاص، وهي ضرورية للغاية لأن طبعتي الأعمال الكاملة لجويس منصور (منشورات أكت -سود) تتبع طريقة عمل غير مقنعة، بررتها لور ميسير في مقدمتها: "يشير إلى أننا اخترنا عدم الفهرسة حتى لا يعيق تنفس النصوص [...] سواء اتجهت يمينًا أو يسارًا، فإن الوحش ينتظرك دائمًا، لأن كتابة جويس منصور لم تتوقف أبدًا عن كونها تهديدًا للمنطق و"وحش الاستخدام المجنون".

هل كان من شأن تصنيف مرقّم وإطار نقدي أكثر رسمية ودقة أن يمنع القارئ من الضياع في هذا العمل الذي يقاوم أي محاولة للترتيب والتصنيف؟ تدرك ميسير بصراحة مدى تعقيد هذه المهمة التحريرية في مواجهة عمل يقاوم التراجع في كثير من الأحيان: "من محاولة إلى محاولة، لم تتوقف هذه النصوص أبدًا عن المقاومة. [...] رسميًا، الكتاب الذي يترك قارئه حرًا في اللعب بمجموعات متعددة ليس موجودًا بعد".

تشهد هذه التقلبات في الواقع على عمل لا يسمح لنفسه بأن يتم إنجازه، ويتحرك باستمرار، ويفلت جزئيًا من الخطاب النقدي. ولا شك أن القوة الكبيرة لهذه الطبعة تكمن في تسليط الضوء على هذه الحركات ودعمها من خلال توفير القراءة وجمع النصوص غير المعروفة عن الرسم: عن بيير أليتشينسكي، وخورخي كاماتشو، وويفريدو لام، من خلال نصوص شعرية فريدة من نوعها. لا القصائد ولا نصوص النقد الفني في حدّ ذاتها، تبدو مكتوبة ضد أي إطار، ولكن ليس ضد أي شكل. تظهر هذه النصوص عن الرسامين وأعمالهم التصويرية بمثابة مساحات فريدة للتفكير في اختراع لغة متحركة للصورة والأجساد التي تصنعها أو تكسرها. وقد تكون القصائد المخصصة للرسام الكوبي ويفريدو لام هي من بين أجمل القصائد، كقصيدة "لام العالم" مثلا.

تستعيد هذه اللوالب مكانة هذه النصوص التي تميزت بصداقات فنيّة متعددة (يمكننا أيضًا الاستشهاد بجورج حنين، وروبرت ليبل...)، والتي تعد أيضًا مرآة للمشهد الأدبي والصوري الفرنسي في النصف الثاني من القرن العشرين. ومن خلالها يبنى صوت قوي ونظرة حادة متعطشة لأشكال وحركات جديدة. فالروابط التي جمعت منصور بالشاعر والرسام هنري ميشو، أفضت على واحدة من أجمل التحيات التي يمكن لشاعر أن يتلقاها من شاعر آخر.