في رثاء الشاعر بدر بن عبد المحسن.. يرحل جسد الشاعر ويبقى الأثر خالدا كنهر
(1)
(الليلة بردْ،
وفي الطريقْ جبالْ،
ارمي عيونك فوق صدري شالْ).
لا أدري لماذا خطر هذا المقطع على بالي، وأنا أسترجع بعض ذكريات أمير الشعر الشعبي (النبطي) الحديث بدر بن عبد المحسن، مقطع من شعره القديم الذي لا يقدم، لعله الحزن الذي يخالجني هذه اللحظة، ولا أجد غير بيت من نص غير اعتيادي يلخصه، أو لعله التوارد اللحظي، والنفسي الذي أراه يتقمص اللحظة، غير مصدق ما يسمع، ويقرأ، ويشاهد عن رحيل شاعر بحجم «البدر»، صاحب مدرسة التحديث في الشعر الشعبي المعاصر، وهو رحيل لمرحلة من الخصب الشعري الذي لا يتكرر، تماما كما أن «المتنبي» لا يتكرر في الشعر العربي.
(2)
يا حابسْ النور بكفوفكْ
سلّم عسى ينجلي همّك
وارمي الزعل خلنا نشوفك
ومد العتب نسبح بيمّك
الناس ما همّها ظروفك
كود الذي يحزن لغمّك
وإن شلت حملك على كتوفك
بتموت محدٍ تراه يمّك!!
حين ترى نفسك، وقد خالطها سواد الحزن، وناخت على جبال الهم، تذكّر هذين البيتين تذكّر أن فيك هالة من نور تحبسها عن ذاتك، حاول أن تكسر تلك الغلالة السوداء التي تحجبك عن الفرح، حاول أن تعيش لحظتك بسعادة، اختلق لنفسك اللحظة، وتغلّب على إحساسك بالسلبية، انظر إلى مرآة ذاتك، وتنفس بهدوء، وأعد ترتيب أوراق حالتك، وتذكّر أنه لن يحمل أحد مشاكلك، ولن يشاركك أحدهم لحظة موتك الحتمية.
(3)
(صوتك يناديني تذكّر،
تذكّر الحلم الصغير،
وجدار من طين، وحصير،
وقمرا ورا الليل الضرير،
لا هبّت النسمة تكسّرْ.
جيتي من النسيان،
ومن كل الزمان،
اللي مضى، واللي تغيّر).
كانت من أوائل القصائد التي شكّلت الوعي الشعري لي، وصنعت تذوقي للكلمة، كان محمد عبده رائعا في الأداء، وتقريب المسافات مع المتلقي البسيط، فهذه اللوحة التشكيلية السريالية لا يفهمها الشارع العامي في ذلك الوقت، وهذا التداخل الكوني غير متاح للفهم المباشر، (ليل ضرير وراءه قمر، نسمة تتكسّر، تأتي من النسيان..) ما هذا الهذيان؟!!، ما هذه الفانتازيا المتداخلة؟!!..كيف يمكن لشاعر نبطي اعتاد على (نوح الحمام، ووجه حبيبته القمر، والشَعر الأسود على المتن..) وغيرها من الوصف التقليدي الاعتيادي الكسول، كيف يمكن أن يستوعب هذا التجديد في الوصف المكاني والزماني واللوني؟
إنها حالة من الصدمة يخلفها كل نص، بل كل بيت، من نصوص بدر بن عبد المحسن، ولذلك فهو ببساطة «مدهش».
(4)
(وليلة كانت الفرقى،
وقالت لي: «فـ أمان الله»،
وليلة ذكرها يبقى،
على جرحي، ولا أنساه،
وجات تأخذ رسايلها،
وخصلة من جدايلها،
وتديني جواباتي،
بقايا عمري، بسماتي،
وقالت لي: فـ أمان الله»).
هذا الجو الدراماتيكي الذي تتكدس فيه المشاعر، وتتساقط فيه العواطف كأوراق الشجر، حين تبدأ لحظة «الفراق النبيل»، وتعود كل التذكارات المراهقة إلى عاشقها الأول، (الرسائل المعطرة، وخصلة من شعر حريري، ولحظات عشق لا تُنسى..)، تخيل تلك اللحظة الحارقة، وكيف تشعل أعواد نارها في القلب، وكيف يبدو المساء الكئيب، وكيف يودع العاشق العاشق..
تخيل كل ذلك، وابتسم بألم، فأنت في حضرة لحظة استثنائية من الوداع، لحظة لا يصنعها غير شاعر كبدر بن عبد المحسن.
(5)
يا بنت أنا للشمس في جلدي حروق
وعلى سموم القيظ تزهر حياتي
أطرد سراب اللال، في مرتع النوق
ومن الظمأ يجرح لساني لهاتي
عاري جسد، والليل هتّان وبروق
دفاي، أنا والبرد، سمل العباتي
هكذا ينتصر الشاعر لعِرقه البدوي، هكذا يفتخر بإرثه، وحضارته، وحياته، وتاريخه، يشتغل على ثيمات الصحراء البسيطة، ويحولها إلى مجسّات للفخر، يصنع من حياة الجدب أرضا خصبة، ويجعل من السراب ماء تنبت به الزهور، قوي، صلب، لا تهزه ريح، ولا تفت عضده رحلة قاسية، فهو ابن الصحراء التي لا تلد إلا قلبا صلبا، ولا تخلّف إلا روحا خارقة للعادة، يتماهى مع كل ما حوله، ويصير جزءا منها، ويبقى متبوعا، لا تابعا، ويحوّل كل مفردات البيئة التي تحيط به إلى أدوات للقوة، والبأس، ويسخرها لحياته، دون أن تبتلعه المدينة والمدنية بإغواءاتها، وإغراءاتها.
(6)
على آخر تراب الأرض،
أحس أن المسافة شبر،
وكل الأرض ما تحمل تعب مشوار،
أحس أني رغم صغري، تفاهة عمر،
في صدري ندم جبار.
..
تصورتك في شامة ليل،
على خد السما الزرقا،
زحام، والدنيا سهرانة،
أحد نازل، وأحد يرقى،
وأحد مثلك يخاف من البلل، والطين،
يقول أن الرعد قاسي،
يحس أن المطر سكين.
يا لهول المشهد، يا لبذخ الشِعر، حين تتحول الأشياء الحميمة إلى مواد قاسية، وتتداخل المشاهد وتتحرك الصورة الجامدة، وتشاهد تلك الأجسام، وهي تنزل وترتفع، وتسافر وتعود، وترى أن هناك من يشبه تلك الأنثى التي تقاسمك طين الأرض، تخاف أن تبللها قطرة مطر، أو تتسخ بحفنة طين، تلك التي لا تشاركك الحياة، ولا تعيش معك اللحظات، تخاف مما حولها، وتعتقد أن كل ما حولها متوحش، وقاسٍ، حتى ذلك المطر الذي هو عنوان الحياة، يتحول إلى نصل حاد في مخيلتها، كم هو موجع هذا الشعور حين لا يشاركك أقرب الناس إليك لحظاتك البسيطة، حين تشعر بأنك تقف على آخر حدود الأرض، رغم أنك أقرب لذاتك من ذاتك.
(7)
(ظماي أنت، ومن يعشق ظماه غيري؟
جروحي أنت، ومن يكره دواه؟
اسقني لو ما ارتويت،
داوني لو ما شكيت،
ما هقيت أني أعطش في حياتي لغيرك أنت،
وما دريت أن ما به أغلى منك..
إلا أنت..)
حين شدى الراحل عبد الكريم عبد القادر بهذه القصيدة، ظهر كم هي هامة تلك الكيمياء التي يحتاجها الشاعر والمغني، وكيف يمكن للحن أن يُظهر مكامن الجمال في نص قد يبدو عاديا لأول وهلة، ولكنك تكتشف بحارا من العمق، وتستحوذ عليك طاقة من الخيال المتماهي مع قلبك، فكلما خرجت من مشهد، يقابلك مشهد آخر، وكلما انطفأت صورة، اشتعلت أخرى، وكلما أحسست بالنهاية، وجدت أنك ما تزال في أول البدء، هكذا هي قصائد البدر المضمخة بالمشاهد المترامية، والتي لا تنتهي، صورة تولّد صورة، ومشهد ينتج مشهدا جديدا، ومعظم نهايات النصوص مفتوحة كفيلم سينمائي غير قابل للتخيل.
(8)
ليلة تمرّين،
ليلك السافر فضح ورد البساتين،
وكثر الكلام،
صحيح..جرّحت الظلام،
بالخد وبنور الجبين،
ليلة تمرّين،
يا عذبة التجريح،
شفتك بعرس الريح،
والشال الذهب،
يحجب سنا الشمس الذهب،
كانت عيونك حزن،
كانت غضب.
لا يتنازل «البدر» عن مستواه الأرستقراطي في الوصف، لا يهبط إلى العادي من الكلام، إنه يصنع المشهد، يزخرفه بخياله، يلوّنه كرسام محترف، يشكل لوحاته بألوان الدهشة، والجمال، يرتقي بعباراته، ويسمو بخطابه، ويلقي ظلال كلماته على القصيدة، فتغدو كائنا حيا، نابضا بالحياة، والحركة، ويسير معها إلى عوالم غير معتادة، ويفتح لها أبوابا من الإبداع، فالقصيدة بالنسبة له أنثى غير مبتذلة، تستحق أن تعيش في قصرها العاجي، يحاول الجميع بلوغها، ولكنهم يعجزون عن الوصول إليها، وحين غنى الراحل طلال مداح النص السابق أخرج منها أجمل ما يمكن لك أن تتصوره كمتلقي للشعر والجمال.
(9)
أعلّق الدنيا على مسمار،
مدقوق فيه جدار،
وتسكن في ساسه الريح،
من له سنين يطيح،
ولجل الليالي قصار،
ما مداه،
أعلّق عيوني على نجمة،
محبوسة في غرفةٍ ظلما
ومقفول عنها باب،
ولها حارسٍ كذاب،
دايم يشيل كتاب،
ويقراه..وهو أعمى!!
يا لهول المشهد، يا للصدمة التي تتحول إلى جنون، شاعر يسكن قصيدته، وتسكنه، هي عصاه التي تقوده، وهو الأعمى الذي لا يخذلها، أي لوحة غرائبية تلك، أي عالم «أليسيّ» ذلك المشهد الجبار، كيف لشاعر أن يختزل نظرته الوجودية لذاته، وللكون بذلك الشكل الرهيب؟..كيف لهذا الخيال أن يعلو فوق الخيال ويذهب بعيدا منفلتا من عقاله؟..ليصنع لوحة سوريالية غير معقولة، يقلب الأشياء رأسا على عقب، ويعيث فسادا في أرض القصيدة، ويراوغ كل هذه المراوغة المرهقة لذهن المتلقي العادي، حيث يصدمه بقصيدة لا يمكن العبث معها.
(10)
لا تلوّح للمسافر..المسافر راح،
ولا تنادي للمسافر، المسافر راح،
يا ضياع أصواتنا في المدى والريح،
القطار وفاتنا، والمسافر راح.
يقتنص البدر حكايات نصوصه الإنسانية من ألسنة الناس، يشكّلها في قوالب، يعيشها في ذاته، يفصّلها على إنسانيته، ويصورها على قوالبه الخاصة، وفيها يعيش الفنان إحساسه، ويلوّنها بصوته، كما فعل راشد الماجد في النص السابق، حيث لم يكن عليه ـ كمطرب ـ إلا أن يمثّل الدور، فالسيناريو موجود في النص، والحوار موجود في النص، وشخوص القصة موجودون في النص، ولم يكن عليه سوى أن يؤدي دوره، فالشاعر البدر تكفل بكل التفاصيل الأخرى، كما يفعل في كل نصوصه تقريبا، والتي هي نصوص حكائية، تراجيدية، حية، ومتحركة، فيها روح تنبض، وقلب يتحرك، وأشخاص يتحاورون، حيث تكون نصوصه عبارة عن قصص مسرحية متكاملة العناصر.
(11)
ليه أحس أني.. وأنا أشوفك حزين
وقلبي الليلة بهمّي ممتلي؟!!
كانها الفرقى طلبتك حاجتين:
لا تعلّمني ولا تكذب علي!!
أي حيرة هذه التي يضعنا الشاعر بدر بن عبد المحسن أمامها؟..أي اختيار تعجيزي هذا الذي ينتظرنا؟..هل هو «اختيار اللا اختيار»؟!!، تماما كرجل يقتله الظمأ، وهو يشرف على الموت، ولكنه لا يريد الماء، المسألة غير سهلة أبدا، لا يريد معرفة الخبر كي لا يُصدم، ولا يريد أن يهرب منه كي يستعد له، هي خلطة سحرية لا يجيد مزجها إلا البدر، يضعك في حيرة، ويجرد عليك سيف الأسئلة، فلا تنتهي من توليد المعاني، وتخيّل المشاهد، وإرباك الخيال، حتى تجد نفسك تعود من جديد لتكتشف شيئا آخر!!.
(12)
أتعب على المعنى، ويسهرني القاف
ويلذ لي تجريح عذب القوافي
وإلى مزج حبر القلم دم الأطراف
يصير لي معنى على الناس خافي
لكل هذا الشِعر، ولغيره المزيد، نحب الشاعر الراحل بدر بن عبد المحسن الذي رحل عن عالمنا يوم السبت الماضي عن عمر ناهز الخمسة وسبعين عاما، قضاها في ترتيب حدائق الشعر، وتهذيب القصيدة الشعبية، والسمو بها إلى آفاق تفوق الراكد الذي سارت عليه لقرون وقرون، حتى كادت أن تكون مجرد نصوص مكررة، بقوافٍ مختلفة، وألسنة متفاوتة التعبير.
رحل أمير الشعر الشعبي (النبطي) الحديث في الخليج العربي، الشاعر الذي بدأ مسارا مختلفا، وترك وراءه آلاف التابعين، يحاولون اللحاق بركب قصيدته، ولكنه أبى إلا أن يرحل في هدوء، كما عاش في هدوء، رحل إلى السماء وفي يديه ألف غصن من جمال، وألف ورقة زيتون، وألف حمامة سلام، فعلى روحه السلام.
«الأبيات في مقدمة الفقرات للشاعر بدر بن عبد المحسن، وجاءت دون قصد، وهناك الكثير من الأبيات التي لا تنسى، ولكن لضيق المساحة».
مسعود الحمداني كاتب وشاعر عماني
