No Image
ثقافة

طفلة في بريطانيا

08 أبريل 2024
08 أبريل 2024

ذات يوم، في بداية مشواري الدراسي وإقامتي في إنجلترا، كنتُ وطفلتي الصغيرة ذات الثمانية أشهر في محل تجاري قرابة الساعة السابعة والنصف مساء للتسوق السريع لحاجيات البيت: خبز وألبان وأجبان وخضراوات وفواكه وما شابه. كنتُ موزعةً بين الاختيار بين الأنواع المعروضة وبين الانتباه الجاد جدًا إلى أن طفلتي بأمان، فقد حذرني زوجي مرارًا وتكرارًا من خطورة الاشتغال بالتسوق عن الطفلة؛ لأن نسبة اختطاف الأطفال عالية جدا في بريطانيا. والحقيقة أني شكّكتُ بالتحذير وظننتُه تهويلا وخوفا أبويًا «فطريًا» على طفلته. وبداعي الفضول التجأت لجوجل «سيد الويب» وأفادني بحقائق صادمة وأرقام مخيفة. فعلى سبيل المثال في عام ٢٠٢٢/ ٢٠٢٣م سجلت الشرطة في إنجلترا وويلز وحدهما ١١٢٢ جريمة اختطاف أطفال! وليس بعيدا عن معرفتكم الفضيحة المدوية التي كتبت عنها صحيفة الجارديان البريطانية العام الماضي حيث كشفت عن اختفاء العشرات من أطفال طالبي اللجوء بظروف غامضة، بل وأفادت أنه تم اختطافهم من فندق تديره وزارة الداخلية البريطانية!

إذن التحذير في محله وعليّ أن أكون متيقظة تمامًا وأن تكون طفلتي في مرمى بصري بشكل دائم. وأنا بهذه الحال، إذ بي فجأة أشاهد عجوزا بريطانية تقف أمامي وتنظر لي بغضب، وفي أجزاء من الثانية كنتُ أفكر: «ما الخطأ الذي ارتكبتُه؟! لا أريد أن أتساءل قانونيا في هذه البلاد التي لا أفقه من قوانينها إلا النزر البسيط جدًا، ولعل أكثرها قوانين أكاديمية تتعلق بالدراسة فقط! يا الله! لا أريد أن «أتبهدل» في الغربة!» ولم تمهلني العجوز للاسترسال في خيالاتي «المتوجسة»، فقالت بلهجة صارمة ما خلاصته أن «هذه الطفلة يجب أن تكون في سريرها الآن، وليس التجول بها في المحلات!» وكانت في يدها عصا للاتكاء عليها وسلة لأغراضها، فما كان مني إلا أن ابتسمتُ وهززتُ رأسي كالمعترف بذنبه - والحقيقة مثل الذي يريد إغلاق الموضوع - وقلت لها: طيب، شكرا لك!

عجّلتُ في التسوق وربما لم أكمل كل ما أردتُه، وعدتُ سريعا إلى البيت. هذا الموقف جعلني أفكر في دوافع هذه المرأة للاهتمام بنوم طفلة لا تمت لها بصلة، وكيف أنها أعطت نفسها حقا بالدفاع عنها وأن تقدم نفسها على أنها الأكثر اهتماما بمصلحتها مني. وقد كنتُ سمعتُ عن اهتمام البريطانيين وربما الأوروبيين عموما بأمور مثل النوم المبكر للأطفال ولكني لم أظنها تحدث هكذا. في اليوم التالي للحادثة، التقيتُ بزميلة خليجية أقدم مني في الجامعة، وسردتُ لها ما حدث. فكانت الصدمة أنه حدث لها وزميلاتها حدثٌ مشابه. فقد كان يوم عطلة أسبوعية واتفقن على تناول العشاء جميعا في مطعم محدد وأن يحضرن برفقة أطفالهن، وحينما كُنّ يتناولن العشاء وقد تجاوزت الساعة الثامنة مساء، إذ بامرأة بريطانية تقف وتصب عليهن غضبها لعدم احترامهن لحقوق أطفالهن، والسهر بهم خارج البيت، وتهديدهن بالاتصال بالشرطة! والحقيقة أني بعد معرفتي بقصتها شعرتُ أن وضعي كان أفضل حالًا وأقل توبيخًا، وتخيلتُ لو أن «عجوزي» قالت لي شيئًا مشابهًا، ماذا كنتُ سأفعل!

ظلت الحادثة في ذهني وبدأتُ أنتبه للممارسات الرسمية وغير الرسمية التي تتعلق بالطفل في المجتمع البريطاني، ووجدتُ أن الأمر يحتوي على تناقضات مُربكة. فهناك قانون الطفولة الذي لا يحمي حقوق الطفل فقط، بل وحتى رفاهيته. وفي الجامعات على سبيل المثال يتم تخصيص بيوت للعوائل التي لديها أطفال بشكل قريب من مرفقات الجامعة لتسهيل الحياة لهم ولوالديهم، إضافة إلى تطوع الناس بتخصيص ساعات يومية للعب مع أطفال الحارة في الحدائق وتسليتهم مجانًا حفاظًا على عقليتهم من «غول التكنولوجيا» وترسيخ ترابطهم مع الطبيعة عوضًا عن الجدران المغلقة، وأمثلة أخرى كثيرة مثيرة للإعجاب. في المقابل، كان أحد أكبر التحديات التي وقعنا فيها كأسرة حينما كنا نبحث عن بيت للاستئجار هو أن كثيرا من المؤجرين يرفضون تأجير أسرة ذات أطفال! وظللنا شهرًا كاملًا نعبئ استمارات التقدم للتنافس على الحصول على «رضا» المؤجرين، ولكننا كل مرة نخسر بسبب أنهم لا يُفضِّلون طلبنا لوجود أطفال لدينا. رغم أننا وفي ظل حالة اليأس التي مررنا بها - وضعنا إيداعا سخيا لطمأنتهم بأن كل شيء سيكون كما هو وأن الإيداع هو ضمان ألا تخريب سيحدث في البيت، ولكن دون جدوى.

ومن المُربكات أيضًا أن نمط الحياة المجتمعية لا يساعد أساسًا على إنجاب طفل! فالأسر تحتاج إلى حضانات لأطفالها خلال فترة الدوام، والحضانات ذات أسعار مُبالغ فيها جدًا وتستنزف الآباء بشكل لا يُصدق. فمن واقع خبرتي فإن التكلفة السنوية للحضانة تفوق التكلفة السنوية لطالب جامعي! كنتُ مصدومة كيف أن طفلة تذهب لتشرب الحليب وتنام وتلعب ببعض الألعاب البسيطة لمدة ثماني ساعات فقط في اليوم ثم يكون تكلفة ذلك ما بين سبعمائة إلى ثمانمائة ريال عماني! أمرٌ مكلفٌ جدا نتج عنه أن يظل الآباء مجاهدين بالعمل المتواصل والمضني لتلبية هذه المتطلبات المالية، بل والتغاضي عن كثير من أحلامهم - مثل شراء سيارة- حتى يكبر أطفالهم لعمر التعليم المجاني. مرة سألتُ إحدى البريطانيات المتزوجات منذ سنوات عن سبب تأخيرها للإنجاب رغم تصريحها الدائم بشغفها بالأطفال، فقالت: «لقد وضعتُ وزوجي كل دخلنا في شراء بيت لنا، ونحتاج مدة من الزمن حتى نكون جاهزين ماديا لتكاليف إنجاب طفل! إنها تكاليف باهظة بلا شك».

ومن المربكات المتصلة بالممارسات المجتمعية إزاء الأطفال هو إما التقدير الكبير لمشاعره أو تجاهله تمامًا! فمرةً اقترب أحد الكلاب من طفلتي بشكل كبير حتى أنه وضع وجهه بما يلامس رأسها من الخلف فصرختْ حتى خفتُ على قلبها الصغير من رعشة الخوف المفاجئ، فما كان من صاحبته إلا أن اعتذرت بشدة وظلت تبدي أسفها بشكل كبير وغضبت على كلبها، بينما في موقف مشابه ورغم بكاء الصغيرة أيضا مر صاحب الكلب وكأن شيئا لم يحدث، وكأن حيوانه لم يقتحم مساحتها لدرجة أنه وضع رأسه في طعامها!

ختاما أقول بأنه ليس هناك صورة واحدة لأي قضية، فهناك الإيجابي الذي نبحثُ عنه ونرغبُ فيه في مجتمعنا مثل تنصيب الناس أنفسهم أوصياء على مصلحة الأطفال كما كان لدى أجدادنا، وهناك السلبي الذي نستفيد من معرفتنا له بتجنبه مثل التكاليف الباهظة لحضانة طفل.

شميسة النعمانية. شاعرة عمانية