اثناء اللقاء مع ساعد التوبي
اثناء اللقاء مع ساعد التوبي
ثقافة

ساعد التوبي.. صانعُ الأبواب يبعثُ في الشجر الميت حياة جديدة

26 يناير 2022
مبتدأ الحكاية: «هنا تستيقظُ القُرى المنسية ومرويات الناس.. مِهَنِهم وحياتهم، فثمة ما هو منسي ويمكن أن يغدو «مُبتدأ الحكاية».
26 يناير 2022

في رحلة سابقة إلى قرية إمطي بولاية إزكي، حيث كانت وجهتنا أنا وصديقتي منى حبراس إلى حارة العين والسواد، لفت انتباهي الرجل الثمانيني، ساعد بن عويض بن عامر التوبي، الذي أخرج لنا كتابًا فقرأ لنا أبياتًا منه، ولم يفته أن يحكي لنا قصّة عمّه خلفان بن عامر التوبي الذي سافر إلى السعودية في خمسينات القرن الماضي، وبقي لعدّة سنوات هناك، فأرسل له ولابن عمّه سليّم بن خلفان-وهما ما يزالان في مقتبل العمر- قصيدة «التودد للجارية»، وهي من حكايات ألف ليلة وليلة. كُتب على غلاف الكتاب: «محاورة بين الجنس اللطيف والمثقف والفلاسفة والأدباء والمهندسين والفلكيين وغيرهم». أخذ التوبي يقرأ لنا حينا من الكتاب وحينا مما يحفظ، وأنا وصديقتي مشدوهتان.

ثمّ قال لنا: «ذهبتُ أنا وابن عمي لاستقبال هذه القصيدة القادمة من السعودية، فحفظتُ القصيدة عن ظهر قلب ونحن نسير عائدين من إزكي إلى إمطي». وأشار إلى أنّ عمّه خلفان بن عامر امتلك مكتبة فيها آنذاك فوق ألف كتاب، فكان عاشقًا للقراءة.

عرفتُ لاحقا أنّ الرجل الثمانيني عمل في صناعة الأبواب وبناء البيوت في قرية العين، فانتابني الفضول، إذ لطالما كنتُ أفكر بالإنسان العُماني القديم، باذلا قصارى جهده في قطع شجرة ميتة ليُعيد تشكيلها من جديد. أفكر في صمته الطويل وعَرَقِه وانتظاراته إلى أن تُبعث الشجرة الميتة لحياة جديدة، لا تقل جمالا وبهجة وأهمية.

قلتُ لصديقتي منى آنذاك: «لا بدّ لنا من عودة ثانية، لنتحدث إلى هذا الرجل»، فكان أن أومأت برأسها موافقة.

الزخارف تكسرُ حدّة الصرامة

من منّا لم يقع يومًا أسيرًا لبابٍ عُماني قديم؟ من منّا لم تستوقفه الألواح الغائرة في تجاويف الجدران، بمساميرها البرونزية الثقيلة، سواء أكانت بفردة واحدة أو فردتين، من منّا لم يمرر أطراف أصابعه لتحسس النقوش الخشبية على الأبواب، تلك التي تأخذ مظهرًا صارمًا لا تكسره إلا زخارف الأشكال الهندسية التي تتبدى على هيئة زهور وأغصان نباتات، تلك الرسومات الدقيقة على واجهات الأبواب وعلى إطارات النوافذ ومصاريعها في البيوت القديمة. وليس على سبيل المبالغة لو عرفنا أنّ بعض الأبواب الخارجية -في بعض الحصون- بلغ ارتفاعها ما يربو على ثلاثة أمتار.

أتخيل الإنسان العُماني برفقة مثاقيبه وقُدُومِه وأزاميله، مُستلهما من الطبيعة تلويناته والحياة الجديدة التي سيبثها في الشجر الميت.

تلقيتُ العلم على يد امرأة

ذهبنا للقاء العم ساعد التوبي في مزرعته، حيث فضّل اللقاء هذه المرّة وسط أشجاره اليانعة وصوت خرير الماء المُتدفق في السواقي، فكان سؤالنا الأول عن طفولته البعيدة فقال: «تعلّمتُ القراءة والكتابة على يد امرأة اسمها شريفة بنت عبدالله السليمية»، فشعرتُ بمفاجأة كبيرة أن يكون قد تلقى العلم بين أربعينات وخمسينات القرن الماضي على يد امرأة، ولا يزال اسمها محفورًا في ذاكرته الخصبة. وأضاف قائلا: «كان المعلم أو المعلمة آنذاك يقبلُ أي نوع من الأجر، فإن لم يكن المال فيمكن أن يكون طعاما أو تمرا، كلّ واحد منّا كان يدفع بمقدوره». ثمّ تعلّم على أيدي معلمين آخرين، وأردف قائلا: «كنتُ مُحبا للعلم وباحثا عنه، كنتُ أحبّ العلم والتعلم كثيرا لكن أبي كان يحتاج يدي جوار يده في صنع الأبواب». هكذا كان شقاء العيش يدفعُ الناس إلى خيارات ضيقة، رغم انفتاحهم ورغبتهم الشديدة في التعلم.

الأعمى والجاعدة والذئب!

ولا ينسى التوبي أن يقصّ علينا قصة المعلم الأعمى، عامر بن سليم الراشدي، وهو رجلٌ نجيبٌ أدار شؤون حياته بحكمة رغم فقدانه لحاسة البصر، «علّمنا تحت الشجر، وقد كانت حواسه حية وكان شديد النباهة» وتابع قائلا: «وصل به الأمر أن تجرأ مرّة على المضي من إمطي إلى نزوى لشراء جاعدة، ذهب فعلًا واشتراها ولكن في طريق العودة ضل الطريق في مكان يُسمى فجّ منح، فتصايح الصايح ومضى الناس يبحثون عنه، فوجدوه وحيدًا ومُفارقا للحياة، أمّا الجاعدة فقد تواردت الأنباء أن ذئبا أكلها».

التعاقد مع الطبيعة

بدأ العمل برفقة والده في صناعة الأبواب، عندما بلغ من العمر خمسة عشر عامًا. كان ذلك في خمسينات القرن الماضي، فتوارث المهنة أبا عن جد، حيث كان أجداده يصنعون الأبواب بدقة المَهرة، ثمّ يقومون ببيعها في سوق نزوى.

وعندما سألته عن مصدر الأخشاب قال: «لا نختار إلا ما مات من الشجر، فلا نقطعُ شجرة فيها عرق الحياة»، وكأنّما ثمّة تعاقد مُلزم مع الطبيعة. يشقُّ بصحبة والده الشجر اليابس بواسطة منشار من صناعة عُمانية. يصل طولها طول ذراع الرجل البالغ، «قصُّ السدرة بأدواتنا آنذاك كان يستغرقُ وقتا طويلًا يصل أحيانا لعشرة أيام»، وعن أنواع الشجر المستخدم قديما لصناعة الأبواب قال: «خشب الأمبا واللوز والسدر». وكما قرأتُ، بعض الخشب محلي وبعضه الآخر مستورد من الهند مثل خشب الساج الصلد والذي يتمتع بمقاومة طبيعية للرمة، أمّا استيراد الخشب من شرق إفريقيا فيعود إلى (القرن الثاني عشر إلى الثامن عشر).

15 قرشًا فرنسيا

وعن الأسعار آنذاك قال: «الأسعار مُتراوحة بحسب حجم الباب، وقد يصل الباب الواحد إلى خمسة عشر قرشا فرنسيا». بادرته القول: «لنتحدث بصورة أدق عن الأبواب ومكوناتها». أجابني: «الأبواب إمّا أن تكون فردة واحدة أو فردتين. في الأعلى يوجد ما يسمى بـ«التساقيف» وفي الأسفل ما يسمى بـ «الرِز» وبين الفردتين «أُنف» بضم الألف. أمّا حديد القفل وتفاصيله فنشتريه من نزوى، نجد بعضه جاهزا عند التجار، وبعضه الآخر نكلفُ به الحداد. ونقوم أيضا بتثبيت المسامير فوقها، فثمّة ما يسمى «كُمّة» تُثبتُ وصلات الباب ببعضها البعض. إذ لم تكن مهنتنا تنفصل عن مهنة الحداد». ثم أردف قائلا: «وبواسطة ما يسمى بـ «القدوم» يصبح الخشب بين أيدينا أملسا، أمّا عن الأصباغ التي نطلي بها الأبواب فنحضرها من سوق إزكي».

وعندما تساءلتُ عن الإقبال وقتذاك على الأبواب ضحك قائلًا: «وهل ثمة بيت دون باب أو نافذة»!

الباب المسروق.. تبعثرتْ أشلاؤه!وعندما طلبتُ منه أن يحكي لي قصّة غريبة حصلت له أثناء صناعة الأبواب، فكّر قليلًا، ثمّ حكى لي قصّة حدثت على أيام «الشيوبة» كما يقول: «الباب كان مُعدّا وجاهزا للبيع، إلا أنّه تعرّض للسرقة، بحث عنه الناس في كل مكان فلم يجدوا له أثرًا.. لكن كيف للسارق أن يُخفي بابا؟ لقد اختفى كالسحر ولم يُعرف له مكان أو أثر».

وتابع التوبي قائلا: «ولكن عندما جاء السيل الجارف، أخرج الباب المسروق من الوادي الذي دُفن فيه وحطّمه، فتناثرتْ أجزاؤه في أماكن شتى من الداخلية»!

لم يرث أبنائي مهنتي!

لم يكن عمل العم ساعد التوبي ووالده وأجداده يقتصر على صناعة الأبواب فقط. فقد صنعوا النوافذ أيضًا والصباحات، تلك التي تبدو كالأقواس في مداخل ومخارج القرى العُمانية القديمة، حيث استعملوا الخشب في صنع النوافذ المستطيلة والتي تعرف بالمشربيات، وثمة شبيكات صغيرة للتهوية غالبا ما تكون معدنية لتحمي النوافذ، وتسمح بدخول النسيم إلى الغرفة، بالإضافة إلى عمل أغمدة السكاكين ومساند القرآن التي تُسمى «مرافع».

وعن العمر الافتراضي للباب قال التوبي: «يُعمر الباب لعقود وربما لقرون، إذ يبقى لفترات طويلة من الزمان، ما لم تهجم عليه الرّمة هجمتها الشرسة».

وعن وراثة هذه المهنة أبا عن جد، سألته إن كان من أولاده من تعلم المهنة منه، فنفى حصول ذلك في زمن الرفاهية والمهن الجديدة والأبواب المستوردة.

الأمهات المنهكات يُعددن المكافأة!

وحول سؤالنا إن كان يستشعر الحنين لتلك السنين الماضية قال بأنّه يشعر بالحنين حقا، لكنه لا يرغب بعودة ذلك الزمان وهو زمان تعب ومشقة وكدح وجوع، «الآلة» الآن تفعل كل شيء وتريح الإنسان. ففي وقت بعيد كان الجذع الواحد يتعاون عليه شخصان ويستحوذ على أيام طويلة من وقتهما لم يكن ذلك بالأمر الهين علينا.

وإلى جوار صناعة الأبواب كان شغف العيش يدفعه مع أقرانه للعمل في مزارع الآخرين، لجني حبوب البر والقمح والعدس، حيث تُداس الحبوب في «الجنور» و«الصيف» يُضربُ بالكرْب.

وحول هذا قال: «كان العمل في الحقول عملًا جماعيًا بين الرجال والنساء، نقطعُ مسافات طويلة من بيوتنا إلى المزارع، الأمهات لا يستسلمن للتعب مساءً رغم أنهن يعُدْن منهكات أيضًا، إذ يحملن الحبوب التي يحصلن عليها من الغلّة ويطحنها في رحى القرية، ثمّ يخبزن لأولادهن أشهى الخبز كمكافأة على الأعمال الشاقة نهارا»، هكذا تمضي الدنيا بمشقة وهناء في آن.

الحمار الميت يُعيدنا عطشى!دفعه شظف العيش إلى تجربة السفر إلى البحرين، حيث عمل هنالك في تنظيف خزانات السفن الكبيرة. الأمر الذي أنهك صدره وأتعبه، فعاد مجددًا إلى عُمان.

وإلى جوار صناعة الأبواب صار يعمل في بناء المنازل أيضًا: «صرتُ بناءً أشرفُ على بناء المنازل، وقد بنيتُ منزلي من طابقين». عمل البناء كان مُشتركًا بين النساء والرجال: «مهنة النساء جلب التراب من المزارع، ومن ثمّ خلطه بالماء لصناعة «الغيلة»، ومن ثمّ يأتي دور الرجال الذين يقلبون «الغيلة» ويخلطون معها التبن. ثمّ يتعاون الرجال مجددًا على إغلاق «الدمّة» وهو السقف العلوي للبناء، وهكذا يمضي الأمر.

ومما يُدلل على مشقة الحياة، أنّه خرج مرة مع رفاقه لجني ثمار البوت فنفد منهم الماء، وكانوا يعلمون بوجود «غيل نسين» وبه ماء عذب للشرب، ولكن لمّا ذهبوا إليه بغرض الشرب وجدوا حمارًا ميتًا وجثته على مجرى الماء، فعادوا إلى قريتهم عطشى.

«الوطية المْحَدّدة».. مهر العرائس! وفي صورة أخاذة لا يمكن تجاوزها بسهولة، حدّثنا التوبي عن «عيون المْساس» الواقعة بين البدعة ومسدود، والجبل في أعلاها، حيث يجتمع الماء قطرة قطرة، ومنه تعطاشُ الناس والحمير والحيوانات العابرة. يتنقل الناس بين السهول والوديان والجبال حُفاة غالبا إذ «لم يكن من اليسير حصول أحدنا على نعال وقتذاك».

ثمّ أضحكنا التوبي وهو يُحدثنا عن «الوطية المْحَدّدة»، فكل عروس لا تقبل إلا أن تحصل عليها ضمن مهرها. وكان عليّ أن أستفهم عن مقصده، فأخبرني أنّه لم يكن من السهل أن يحصل الرجال والنساء على النعل، ولذا يغدو من المهم أن يصبح ذلك شرطًا أساسيًا للعروس. وهذه النعل يجتمع لإنجازها دباغ الجلود- فأصلها جلد الحيوانات- برفقة الحداد الذي يصنعُ شرائح من الحديد توضع أسفل الوطية فيُحكم وضعها ويشدها بإحكام.

يضحك التوبي متابعا كلامه: «تسمعُ صوت الوطية المْحَدّدة كما قد تسمع صوت حوافر الفرس».

تحت رحمة بويب صغير!

للأبواب أسرارٌ وحكايات تتعدى دورها الاجتماعي بالستر والاقتصادي بجلب المال، لأدوار سياسية أيضا، فقد قرأتُ مرّة: «يضم الكثير من أبواب المداخل في الحصون، بويبا صغيرا يقع في الجزء السفلي من المصرع الأيمن، ويوفر هذا البويب مدخلًا أو مخرجًا للأفراد حسبما يأذن لهم الحارس دون الاضطرار لفتح الأبواب الرئيسية، ولكن بالنظر لانخفاض موقع هذا البويب، فإن الذي يمر منه يكون تحت رحمة الموجودين في الداخل، ويضمن هذا البويب أيضًا عدم إمكانية مباغتة الحارس أو مهاجمته».

ينظر العم ساعد التوبي إلى تلك الرحلة التي أخذت نصف عمره بامتنان شديد؛ لأنّها صنعت ما هو عليه الآن، لكنه لا يتمنى لشقاء ذلك الزمان أن يعود مجددًا.