No Image
ثقافة

رواية «تفصيل ثانوي» أنموذجًا لأدب المقاومة...

19 مارس 2024
19 مارس 2024

عندما تمت الإشارة لي بإعادة كرَّة العام الماضي لكتابة هذا المقال الرمضاني، وافقت دون تردد استجابة للرغبة المتقدة، والضرورة الملحّة بمَد رقعة فعل المقاومة الصغير الذي نمارسه جميعنا عبر مواقع التواصل الاجتماعي بقلة حيلة. ورغم أنني أدرك أن هذا المقال لا يعد إلا «جرمًا صغيرًا» لا يرقى لأن يماثل ما سخّره آخرون من أنفسهم وأوقاتهم وطاقاتهم وعزيمتهم في خدمة هذه القضية كلا حسب مجاله. ولكننا بعدما كنا نكرر «أثر الفراشة لا يرى»، حظينا بزمن شهدنا فيه بأم أعيننا أثر الفرد الواحد جليًا، بل وأصبحنا نمنَّي أنفسنا به، ونرجو أن يكون الخلاص على يديه، كما ونعول عليه للتحرر، سواء طال الأمد أم قصر.

إن اختيار رواية «تفصيل ثانوي» للكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي، وقراءتها هو فعل دعم ومقاومة بحد ذاته، لدحر كافة أشكال العنصرية وازدواجية المعايير في وجه الشعوب المضطهدة، فرغم أن الرواية قد صَدرت عام 2017 بنسختها العربية، وقد ترجمتها إليزابيث جاكيت إلى الإنجليزية، لتترشح إثر ذلك لجائزة الكتاب الوطني في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2020، ثم وصولها إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر الدولية عام 2021.

إلا أن ما جعلها تطفو للسطح مرة أخرى في أكتوبر من العام المنصرم هو ترجمتها إلى الألمانية من قبل «غونتر أورت»، وفوزها إثر ذلك بجائزة ليبراتو بريس 2023. وقد كان من المفترض أن تتسلم شبلي الجائزة في حفل يُقام في 20 أكتوبر من العام المنصرم ضمن فعاليات معرض فرانكفورت للكتاب، ولكن مع أصداء «طوفان الأقصى»، فوجئت الأوساط الثقافية سواء في العالم غير الغربي (الإفريقي والآسيوي وأمريكا اللاتينية) المستهدف بالجائزة، أم في الوسط المحلي الألماني بقرار إلغاء الحفل وتأجيله من قبل إدارة المعرض والمسؤولين عن الجائزة، في إشارة واضحة إلى التكالب على إلغاء الصوت الفلسطيني، وبذلك تمتطي الجهتان ركب موجة الانحياز الجلي والدعم المستميت إلى الرواية الإسرائيلية التي اجتاحت ساسته، لكننا أدركنا هنا أنها طالت أيضا مثقفيه وإعلاميه ممن كان يعول عليهم إحقاق الحق كونهم حملة أمهات المعرفة والثقافة في المجتمعات، أوعلى الأقل تبنّي الحيادية.

وبذلك انقلبت الرواية من «عمل فني مؤلف بدقة يحكي عن قوة الحدود وما تصنعه الصراعات العنيفة بالإنسان» إلى «مادة معادية للسامية تصور إسرائيل كآلة قتل -وإسرائيل كذلك-». ولكن بعيدًا عن هذا وذاك فإنه يمكننا القول إن عنصر القوة في هذا العمل الأدبي هو اللغة الرصينة النادرة، والتي تشكّلت لدى الكاتبة جراء إبحارها الدائم في المعاجم اللغوية التي يزخر بها تراثنا العربي، وجميعنا نعلم الدور المهم الذي تلعبه اللغة في تخليد الإنتاج الأدبي لسنوات بل وأحيانا لقرون، وهو السبب ذاته الذي مكّن الرواية من أن تُصدّر للأدب المترجم، وتنال استحسان القراء على اختلاف ألسنتهم. إن من يقرأ الرواية، لا يمتلك إلا أن يُعجب ويتعَّجب بقدرة شبلي الأدبية في سرد الحوادث التاريخية والحالية بتجرد بأسلوب خالٍ من أي لغة استقطابية، أو تحريضية. ولسان حالها يقول لم أصف إلا الحال الإنساني في فلسطين، الذي يقتحم الاحتلال فيها أبسط تفاصيل الحياة اليومية، والذي لن نستطيع أن ندركه، أو نتصوره مهما حاولنا، ولكن الكاتبة نجحت في مقاربة الصورة عبر رواية مقتضبة أغدقتها بتفاصيل دقيقة، مستخدمة لغة دسمةً منحت الكلمات أثيرًا يخرجها من الرواية لدواخل القارئ.

تجدر الإشارة إلى أن النقاد حول ما يعرف بـ«دراسة النص» ينقسمون إلى مذاهب عدة، نذكر منها المدرسة البنيوية التي تعامل النص بصفته منغلقًا مكتفيًا بذاته، لا يعطي سوى دلالة واحدة، على عكس المدرسة التفكيكية التي تفتح المجال لتعدد المداليل. والمدرسة الأسلوبية التي تميز سمات ونغمة اللغة المستخدمة. وكذلك، المدرسة السيميائية (علم العلامات) التي تعتبر اللغة نظام إشاريًا، محفزًا للطاقة التخيلية لدى القارئ، حاثةً إياه للكشف عن البعد النفسي والجمالي والدلالي للنص. ونتيجة لذلك؛ فإنك قد لا تستطيع سوى أن تحب الرواية أو تكرهها دون أي شعور وسطي. فالقارئ الحَرفي الهاوي سيجدها غارقة في السطحية والرتابة والتكرار-وهو ما أجده أسلوبًا مقصودًا-، دون أي تصعيد دراماتيكي، ودون أن يصله أي معنى، وسينقدها بأنها لا ترقى إلا أن تكون قصة قصيرة-رغم أني أجد أن الكاتبة اقتضبت وما اقتضبت في آن واحد-، وقد يصل به الحد، لئلا يتمكن حتى من إكمالها. وفي المقابل، ستجد القارئ الصبور ذا البعد الأدبي مهووسًا بالتركيز على التقاط تفاصيلها، وما تبثه من مشاعر، متحرِّقًا، للتعريج على قراءة مختلف مراجعات القراء عنها وتأويلاتهم لها.

إن الرواية تقع في خطين زمنيين يفصل بينهما ربع قرن، تنسج وتقاطع شبلي بينهما الدلالات الثانوية ببراعة واقتدار، تتجرأ على ألا تمنح الشخصيات أية أسماء، مكتفية بتسميات معينة كالقائد والبدوية والموظفة، للإشارة إليها. بالإضافة إلى تخففها عن رسم أي أبعاد للشخصيات كخلفياتهم الثقافية أو الاجتماعية أو النفسية خاصة في القسم الأول منها، متخليةً بذلك عن جميع «الرتوش» التي تشكل عادة مادة دسمة للكاتب، لجذب انتباه القراء ونيل إعجابهم، وتغذية فضولهم. لا تتسلح الكاتبة في هذه الرواية سوى بلغة إيحائية كثيفة اكتسبتها عبر رحلة مضنية في قواميس اللغة كـ«لسان العرب لابن منظور»، باحثة عما أسمته «الكلمات التي تفتح أزقة حسية وفكرية جديدة». كما تسلحت كذلك بالتفاصيل الثانوية كالزمان والمكان، والخرائط، وأسماء القرى، وأنواع الأشجار، والمحاصيل، والحوادث العَرضية كرائحة البنزين، وعواء الكلاب، والمسنَّين. كما أن مُكنة الكاتبة تجّلت أيضا في تنويع الأسلوب السردي، ففي حين أنها صاغت القسم الأول من الرواية بشكل إخباري تقريري، عديم المشاعر والأحاسيس، فقد أغدقت القسم الثاني منها بكومة من الاختلاجات النفسية كالهوس اللا واقعي نحو الواقعة والقلق المرضي، الذي أدى بالموظفة لفعلٍ ثانوي صغير قادها لنهايتها المرسومة.

في تصريح للمتحدثة باسم نادي القلم في برلين إيفا ميناسه «إن الرواية لن تصبح مختلفة، أو أفضل، أو أسوأ، لمجرد تغير نشرة الأخبار. إما أن الرواية تستحق التكريم أو لا تستحق». إن الرواية الفريدة سيسطع نورها بالقراء والقراء وحدهم، شريطة أن يفهموها ويصل صدق الكلمات إليهم. إن الجوائز هي تزكية ثانوية للكاتب، حَسْب شبلي بصمتها في قُرَّائها من خلال إضافة مفردة «تفصيل ثانوي» لمعجمهم اللغوي يستخدمونه على غرار «على الهامش»، بالإضافة إلى غرقهم في تفاصيل صغيرة كمصير زميلتها الموظفة التي منحتها هويتها، ومصير زميلها الذي استأجر السيارة لها؟ مذكرين أخيرا أن صوت الضمير الإنساني يؤكد أنه في القضية الفلسطينية لا فرد ولا فعل ثانوي، كل تفصيلٍ أساسي مهما صغر حجمه أو تأثيره.