No Image
ثقافة

بوصلة السراب..رواية التحولات لأحمد الرحبي

24 مارس 2024
بين دفتين
24 مارس 2024

يواصل الكاتب العُمانيّ أحمد الرحبي مشروعه الإبداعيّ (كتابة وترجمة)، حيث صدر له مؤخرًا روايته الثالثة (بوصلة السراب) عن دار أوكسجين، بعد روايتيه الوافد (2006)، وأنا والجدة نينا (2015).

يشتغل الرحبي على خط خفي في سرده، هو الاغتراب، اغتراب الإنسان، وهي ثيمة واسعة ومتشعبة وعميقة، ثيمة أصبحت ملازمة لحياة الإنسان المعاصر، وربما تُلامس روح الكاتب الذي اختار موسكو موطنا لدراسته وحياته. وهذه الثيمة ظهرت بأشكال ومظاهر مختلفة في أعمال الكاتب.

من العتبة الأولى للنص (بوصلة السراب) نحن أمام لعبة المتناقضات، وهي متناقضات ضرورية لكشف جوانب، وحياة الشخصيات. الشخصيات التي تعيش في قرية مغلقة/ ومفتوحة على كل الاحتمالات وتحولات الزمن، وتمدد الأمكنة وتوحّش الإنسان، وانكسار الأحلام.

الشخصيات التي نسجها الرحبي بإتقان فني عال، ووعي سردي. والتناقضات هنا ليس على مستوى الشخصيات وما تفعله في الحدث السردي، بل حتى الأمكنة، رغم الوصف الرومانسي للقرية الذي يطفو في التفاصيل هناك رأس للرأسمالية بدأ يطل على هذه القرية داخل النص، والرأسمالية مرتبطة بالسلطة دائما.

فالبوصلة هي التي تحدد الطريق والاتجاه، والبوصلة كذلك تشير بشكل خفيّ إلى خوف من الضياع والانحراف عن الطريق لمن يحملها، لكن الكاتب أضافها إلى السراب. فمن هذا الذي يتبع السراب؟ هذا السراب الذي ستتبعه الشخصيات، وخاصة إذا علمنا أن الرحبي قد اختار زمنا مفصليا لأحداث روايته، يمكن أن نطلق عليه زمن التحوّلات في المجتمع العمانيّ العالق بين زمنين، زمن القرية وزمن النفط والمدينة. الجو العام للشخصيات عالق بين منطقتين قلقتين (الماضي الذي يحمل حقائبه، والمستقبل الذي يتكوّن في حقول السلطة). هل يمكننا أن نتبع نحن قرّاء هذه البوصلة سراب الأحداث؟ أو هذا السراب مرتبط بزمن ما أم إنه سراب يطاردنا؟ أتستطيع هذا البوصلة أن تحدد الخطاب العام للسرد أم أن السراب سيشوش هذا الخطاب العام؟ ويمكن أن نضع ملاحظة بأن السراب هي منطقة خطيرة أقرب إلى الوهم، فالذي يتبع السراب يظل يتوهم أنه سيصل قريبا.

« كان محمد، القادم من المدينة لقضاء إجازته الصيفية عند ذويه، يمشي في ذلك الصمت الرابض على الأرض والخلائق» ص7 في ذلك الصمت المتشبث بالأرض والبشر يبدأ أحمد الرحبي بناء معماره السردي ومملكته، وهي مهمة ليست سهلة لعدة أسباب: فمحمد القادم من المدينة عليه أن يؤثث بيت الرواية بكل الأمكنة التي يصفها، فبناء عالم روائي مكتمل في قرية ليست مهمة سهلة، والجو العام للقرى جو راكد ويلفه الصمت، فكيف يمكن للرحبي أن يحرك نهر السرد في هذا الجو؟

زمن الرواية هو زمن التحولات، ليس تحولات عامة فقط، بل تحولات على مستوى الشخصيات وعوالمها، اختار الكاتب القرية مكانا لهذا الرصد، ليس لتمجد القرية مقابل قبح المدينة، التي لا تظهر سوى كظلال في الرواية. ومن الملاحظ في موضوع الزمن، أن هناك ثلاثة أجيال داخل الرواية الجد والأب (الغائب في معظم أحداث الرواية) والحفيد الذي يرصد عوالم الحياة والعلاقات البشرية في القرية، وهذا الربط والتداخل بين هذه الأجيال الثلاثة خلق تصاعدا وتمازجا بين الأحداث لخلق المفارقات السردية، ورصد المكونات الثقافية للأجيال الثلاثة ورصد بنية الأفكار والهواجس والمشاعر والأحلام لكل جيل.

رغم أن الكاتب رسم المكان بشكل دقيق، وجعل المكان بطلا في الرواية، إلا أنه لم يعط الأمكنة أسماء محددة، فهناك المكان والسوق والمسجد، والحارات، والمقبرة، ومكتب الوالي. وهنا يتبادر إلى الذهن لماذا هذه الضبابية في وضع الأسماء رغم دقة الوصف للأمكنة؟ هل هذه الضبابية مرتبطة بالسراب الذي عنون به الكاتب عمله الروائي؟

قسّم الرحبي روايته إلى ستة فصول، وأعطى لكلِّ فصل عنوانا خاصا به، يرتبط بعوالم هذا الفصل وأحداثه (مدخل إلى المكان، مشاريع العم صالح، ابن المجنونة، السوق، أفراح وأتراح، الخروج من المكان). وخلال هذه الفصول شيّد الرحبي عوالمه وبنى حيوات وأحداثا ورصد تحولات الشخصيات وانهزاميتها، كل هذا البناء، وهذا الرصد قائم على التفاصيل الصغيرة، للأمكنة والأشياء وحوارات الشخصيات.

« أما الكاسر، الشبيه ببرميل صغير، فتناوله رجل ضئيل، لا شيء يوصف فيه، فوجهه صغير قد غارت ملامحه، وملابسه واسعة تكاد أن تبلعه، ينقران على الطبلين، نقرا رتيبا لكنه قوي، يريدان أن يوقظا به المنشدين وينقلاهم إلى درجة أخرى من الطرب، وهو ما تم بالفعل». ص186

من خلال التفاصيل الصغيرة التي نحت بها الكاتب عوالم وأمكنة وشخصياته السردية استطاع أن يمرر من خلال ـ التفاصيل ـ رسائله المضمرة والجمالية.

الغياب والحضور

هناك ثيمة أو تقنية استخدمها الكاتب في روايته بذكاء، وهي ثنائية الحضور والغياب، فحضور عائلة الطفل محمد من العاصمة إلى القرية، سيولّد غياب الأب، الذي سيذهب إلى الحرب في الكويت، وعندما تحضر السلطة (مكتب الوالي) في حياة صالح ستغيب عنه أشياء كثيرة ومنها محبوبته الأولى، الذي يُضحّي بها لكي يقترب من السلطة، غياب الحب وحضور السلطة في حياة صالح، وكذلك عند عودة أبو محمد من الحرب يعني غياب محمد عن عوالم القرية، وحضور مظاهر المدنيّة إلى بيت الجد سليم التويجر سيولد غياب البهجة من حياة العائلة. فمتوالية الحضور والغياب تتوالى وتظهر بأشكال ومظاهر مختلفة في الرواية. فالغياب محرض لحضور حدث ما، وحضور حدث ما سيولد غياب شيء ما. وبين هذين الخطين تتصاعد الأحداث.

السرد بين واقعية الكبار وأحلام الأطفال

رغم إن الطفل محمد هو ركيزة أساسية للسرد، ومحرّك شبكة العلاقات في الرواية، إلا أن المتتبع للشخصيات وعلاقتها بالأحداث السرديّة يُلاحظ أن السرد تأرجح بين عالمين، عالم الكبار وما يمثله من واقعية وحنين جارف وتوحش، وتشبث بالأشياء كما هي، وبين عالم الأطفال الذي يُؤسس للحياة أحلامها الصغيرة ويرصد زوايا الواقع بصدق وشفافية.

مثلما قلنا سابقا إن الرواية تذهب إلى زمن مفصلي في حياة العُماني المعاصر، زمن التحولات، وهذه التحولات رصدتها هذه الأصوات السردية المتناقضة كذلك في نظرتها وتشبثها بالأرض.

محمد الطفل هو الحلقة الرابطة بين الأصوات السردية داخل الرواية، رغم أن محمد كائن غير منتم إلى القرية رغم محبته الظاهرة لها، وبين المدينة التي لا تظهر سوى في بداية العمل ونهايته. ولكن هذه العين الراصدة تكشف لنا تناقضات الحياة، بكل تحولاتها وجمالها وقبحها، لا تقارن القرية وأهلها، بل ترصد، تتأمل، تتعرّف، دون أي حكم.