2614662_201
2614662_201
ثقافة

الهم الفلسطيني العابر فوق جراح الزمن

23 مارس 2024
23 مارس 2024

«ليس الموضوع مجرد العنف المادي للاحتلال، بل قدرة الاحتلال على تجريد الفلسطيني من أبسط صلة تربطه بنفسه وبمكانه...» بهذا علّقت مجلة الجديدة الأمريكية على رواية مريد البرغوثي «رأيت رام الله».

ربما لا توجد قضية على وجه الأرض تتشابه مع القضية الفلسطينية؛ من حيث المد الزمني، وما صاحب هذا المد من نزيف بشري وتغيير ديموغرافي للأراضي الفلسطينية، وكذلك محاولة تجريد الفلسطيني من هُويته التاريخية وخلق أجيال لا ترتبط بالأرض ولا بالهُوية الفلسطينية، وهذا ليس خاصا بالأجيال الفلسطينية التي تولد في الداخل أو الخارج وإنما يصل هذا التجريد للأجيال العربية والمسلمة التي تنادي بأن قضية فلسطين قضية عادلة.

يتحدث الكاتب بدءا من عبوره جسر الأردن متّجها للقاهرة لاستئناف فصله الأخير في جامعة القاهرة. جامعة القاهرة التي دخلها رغبة في تحقيق حلم الوالدين بأن يكون لديهم في العائلة من يحمل الشهادة الجامعية وكان ذلك في العام الدراسي 1966/ 1967 وهو يتلقى الرسائل من رام الله بأن الوالدين قاما بطلاء البيت «عمارة اللفتاوي» استعدادا لعودته بالشهادة.

تتغير مجاري الأودية بمقدار كميات الأمطار الهابطة عليها، كذلك تتغير مجاري الحياة بمقدار الأحداث التي تغير سيرورة الزمن إما تدفعك للأمام وإما تجعلك بلا وطن وبلا هُوية.

في سنة 1967 كان الامتحان الأخير وبمقدار فرحة المغترب بقرب الرجوع للأهل والوطن ومرابع الطفولة، بمقدار الجذور التي تنبت في البلد المستضيف وبين هاتين يلتم الطلاب في أروقة الجامعة لسماع إذاعة صوت العرب والأغاني الوطنية، يذهب خيال الكاتب مع المذيع «أحمد سعيد» الذي يصوّر الحرب بأنها طريق إلى فلسطين، ليصبح اليوم التالي معنونا في كل الإعلام بأن نكسة حلت بالأمة العربية وبأحلامها التي رسمتها الأغاني الوطنية وبأن إسرائيل تمددت أكثر وأكثر سواء في الجانب الفلسطيني أو السوري أو المصري معلقا «توقفت الامتحانات لأسابيع. استؤنفت الامتحانات. نجحت وتخرجت. حصلت على ليسانس من قسم اللغة الإنجليزية وآدابها. وفشلت في العثور على جدار أعلق عليه شهادتي» من هذا التاريخ الفاصل ومن هذا المكان الذي سمع فيه بالنكسة يستمر شتاته لأكثر من ثلاثين عاما حتى يسترجع ذكريات الخروج الأخيرة التي شاهد فيها الجسر الذي يربط فلسطين بالأردن.

برغم أن الكاتب يصوّر رحلته الشخصية، فإنه يمكن إسقاطها على كل الفلسطينيين الذين تقطعت بهم السبل في الدول التي كانوا بها في سنة النكسة وما صاحب ذلك من تهجير للفلسطينيين واستقبال لليهود العرب واليهود الذين قدموا من كل بقاع الأرض من ذات المبدأ «من لا يملك، يعطي من لا يستحق» أدى ذلك لظهور حركة فتح بجانب الحركة الشعبية لمنظمة المقاومة الفلسطينية وغيرها من الحركات التي تبنت المقاومة المسلحة لاسترجاع الحق الفلسطيني المغتصب.

في الرواية يظهر الكاتب ما يعانيه المغترب الفلسطيني فمن خلال زواج الكاتب من الكاتبة المصرية المعروفة «رضوى عاشور» في عام 1970 قررا بدءا عدم الإنجاب لكون الأب فلسطيني بلا وطن وبلا هُوية ومن الصعوبة إنجاب طفل يحمل عبء الحياة من وهلة ولادته، مضيفا «بعد عودتها بالدكتوراة عام 1975 إن الوقت قد حان لنوع من الاستقرار الأسري. حملت وأجهضت في عام 76. ثم حملت ورزقنا بـ«تميم» في 1977 أي قبل ترحيلي من مصر بخمسة أشهر» ومن هذه النقطة قياسا لكل المغتربين الفلسطينيين ووفقا لشهادته بأن قرار الترحيل حد من الإنجاب بمولود آخر وكذلك ينشأ الطفل في بلد ويكون الأب في بلد آخر بمعنى قطع العلاقة الأبوية من ناحيتين، الأب بشخصه وجنسية الأب الأصلية.

ولذلك نلاحظ أن بعد مرور قطار الزمن بين المولود وبين الوالد ينادي الولد والده في أول لقيا بينهما في المهجر «عمو مريد» لكن الأب يتقبل لفظ «عمو» ولكنه لا يتقبل فكرة الغياب الذي يمارسه المحتل في طمس هوية الأطفال الذين يولدون من آباء جذورهم تنتمي لأرض كانت ذات يوم مهبطا لرسالات سماوية» والليل حولي لا يمر/ وليس حولي من يواجعني ويكذب (صادقا)/ من أجل روحي/ أو يلوم هشاشتي حتى ألومه/ أما المسافة بين أحبابي وبيني/ فهي أقبح من حكومة».

لقد عانى الفلسطيني الأمرّين سواء من السلطة الداخلية التي اعترفت بها الدول بعد سلسلة من الاتفاقيات والمؤتمرات، هذه السلطة التي آل لها الحق الفلسطيني المشروط بأن طريق هذا الحق يمر من خلال المفاوضات وليس من خلال السلاح، وبالتالي يجب تجريد الفلسطيني من سلاحه وأن تكون هذه السلطة المتراس الأول عن البيت الإسرائيلي الذي يتمدد بالمستوطنات التي تنبت كالفطر بعد نزول الأمطار دون اعتبار لصاحب الأرض الأصلي الذي لا يملك حق الدفاع عن أرضه وعرضه ووطنه، وإن قرر فغياهب السجون المؤبدة تنتظره التي سيجت بأحدث الأنظمة التي تحط من كرامة السجين. ومن هذه المتغيرات التي فرضت على الشعب الفلسطيني السجين في الداخل والسجين في الخارج تبنت الكثير من الجماعات الكفاح المسلح نتيجة للظلم الذي تمارسه إسرائيل مستندة للغرب الذي يؤيد تفوقها العسكري ومؤكدا حقها الوجودي في هذا المكان دون اعتبار لصاحب الأرض الحقيقي.

ومن خلال الرواية والبعد الزمني بين تحقيق الحلم للفلسطيني الذي يطمح بأن تكون له دولة معترف بها عالميا وبين الآلة القمعية التي تمارسها إسرائيل فقد تيقن الفلسطيني بأن طريق المفاوضات لا يكون عادلا ولن يكون إلا بتساوي القوى فلا يمكن لضعيف منزوع السيادة أن يتفاوض مع محتل تدعمه آلة حربية عالمية، وبالتالي أحداث السابع من أكتوبر ما هي إلا تداعيات فرضها الواقع الفلسطيني الذي مورست عليه كافة أنواع الظلم الذي لم يشهده غيره على سطح الأرض.

صالح الريسي كاتب وشاعر عماني