No Image
ثقافة

إسحاق الخنجري: النقد هو مقدار الأسئلة التي تمور في الروح.. والشعر هو ما تبعثه من أجوبة عن الوجود

04 نوفمبر 2023
يكتب متجردا من الوعي الذهني الصارم ومنغمسا في عزلته
04 نوفمبر 2023

يحدثني عن حبه للعزلة، وأنه كائن لا يحب الأضواء، يأنس بالحروف ويتآلف مع الأبيات، فأقتحم عزلته وأسلط الضوء على حروفه، أقرأ تفاصيل تجربته، وأبحر في أعماق أبياته، فمن صمته الطويل أنتج ديوانه الشعري «وحده قلقي» في 2009م، وتكشفت ألوان الشعر بديوانه الآخر «خديعة قوس قزح» الصادر في 2022م، ليكون الشعر هو صوت الشاعر «إسحاق الخنجري»، الذي كان يخيل لي أني سأجري حوارا صحفيا معه، ولكني تفاجأت بأني خرجت بسرد أدبي متنفس بعبق اللغة الشعرية.

هل يساعدنا الشعر على النجاة من أحزاننا؟

بالتأكيد، فهو يعيد لنا نشوة اكتشاف الأشياء ومحايثتها بطريقة مختلفة عن صورتها الواقعية في الوجود، وهنا المتعة الحقيقية للشعر، أن نجد في ضباب اللغة أسرارنا وذواتنا المتعددة، وأن نعود إلى الأحلام القصية التي لا نتخيلها ولا نبتكرها، حيث نجد فيه مدا من الجمال المختلف والخصوبة المتجددة، فهو يرمم الذاكرة ويعيد البريق المفقود للزمن، ليس لأنه خارج عن دائرة اللغة التداولية المتحجرة فحسب، بل لأنه يجدد فينا فتنة البحث والتقصي والغرق في الخيال، وهذا أجمل ما يرجوه المرء في عالم شديد الجمود والبلادة. إنه يوقظ الحواس المهملة التي تنملت من كثر الامتزاج مع سيرورة الحياة وجمودها.

دراستك الأكاديمية في الشعر.. كيف أثرت تجربتك الشعرية؟

جعلتني أقرأ الأشياء ببصيرة أخرى أسميها الاستقراء المكثف في كل بنيات اللغة الشعرية، حيث أصبحت أعيد النظر إلى النص من زوايا مختلفة، صحيح أنني لا أكتب إلا في لحظة توقد جمرة الشعر؛ حتى تكون العملية الإبداعية روحية خالصة، لكن لاحقا أستخدم الأدوات النقدية من أجل تنقية النص من الزوائد التي لا تخدم المعنى.

حقيقة دائما أشبه الشعر بالموج الهادر، كما أشبه النقد بكروم العنب المتعالقة مع بعضها البعض وعلينا أن نقطفها بهدوء تام. يجب إدراك أن النقد هو مقدار الأسئلة التي تمور في الروح، أما الشعر هو ما تبعثه الروح من أجوبة عن هذا الوجود.

بالحديث عن النقد.. نحن نعلم أنه إضاءة للعمل الإبداعي، فكيف تنظر لعلاقة القصيدة والنقد في مشهدنا الشعري؟

هناك جدلية عميقة لا يفهمها كثيرون في خضم ممارسة قراءة الشعر خاصة، حيث لا يدركون الفاصل الحقيقي بين الكتابة الإبداعية والنقد الحقيقي، لا يدركون أن الشعر نوافذ الروح وفرصتها أن تتكلم وتعبر عن أسرارها، بينما النقد أبواب العقل، وحضوره الفاتن في التأويل والتقصي، حينما نكتب الشعر نترك لطاقة العاطفة أن تتكلم، أما عندما نكتب النقد لابد أن يحضر الذهن العقلي ونتركه يبث لنا ما يود أن يقوله، ولذلك أرى أن هناك تجاسرا بين الشعر والنقد وهناك لا تجاسر أيضا؛ التشابه من حيث البحث عن السطوة الجمالية والاختلاف من حيث قوة العاطفة وقوة الفكر، الشعر يسعى إلى تلك الطراوة الفائضة بين غصنين في شجرة، بينما النقد يسعى لوصف حرب صاخبة بين نمر وطريدة في غابة.

طالما كانت البيئة هي منبع اللغة الشعرية، وهو ما أكده الخنجري في بعض مقابلاته.. فهل لنا أن نقول أن الشعر هو من اختارك لا أنت؟

لا أدري من اختار الآخر، لكني لا أفكر مطلقا في كتابة الشعر بعينين تبصران الواقع تماما؛ فعندي إيمان عميق جدا أن الشعر خاصية مختلفة تتجه من الوجود إلى روح الشاعر، أو أصيغها بعبارة أخرى الشاعر الذي لا تسكنه الطبيعة سينتج شعرا يمشي على قدم واحدة؛ لأن الطبيعة ليست لوحة صامتة معلقة في جدار، بل هي مجموعة كائنات تتنفس وتتشاكس وتتسامى؛ لهذا أنا كثير الاحتدام بالطبيعة حد التماهي المطلق، وأجد فيها كل الطفولة التي تسكنني وتحرقني في الوقت ذاته، وأعتبر الأمكنة المؤثثة بأشياء عذرية الخلق والزمن نوعا من القداسة المطلقة، ولا أحب كثيرا التدخل البشري في المعالم.

ما شكل القصيدة الذي يجد فيه إسحاق نفسه، ويستطيع أن يبدع فيه؟

شخصيا خارج التصنيفات الشكلية للشعر، ولا أحبذها مطلقا، فأنا من أنصار لندع نهر الشعر يتدفق كيفما يشاء من دون أن نحده في جدول أو نضعه في شبكة، وأؤمن أن الشعر الذي يؤطر يموت سريعا، علينا أن نترك اللغة الشعرية تشق مجراها وتفتح أجنحتها بلا قيود، مع الحرص على التجديد في روح اللغة الشعرية وفضاءاتها، فلا معنى أبدا أن يظل الشاعر مقيدا نفسه في هاجس واحد طوال تجربته الشعرية، ويحبس عواطفه في زجاجة صغيرة، عليه أن يسعى لتطوير أدواته ويتجاوز تعبيراته وأخيلته من مرحلة إلى أخرى، عليه أن يكون نسرا مهاجرا بالمعنى الحرفي للترحل والتحول، فالشعر لا ينتمي إلى جهة منظمة ومرتبة، بل يتجه إلى فوضى أنيقة وحرية غير محصورة بالمجازات الواقعية المؤدلجة.

وأنت تكتب هل تفكر في القارئ؟

مطلقا، ولا يرد في ذهني ذلك أبدا، لدي قناعة تامة أن الشاعر الذي يفكر في القارئ هذا كاتب تاريخ يوصف التلاحم الحميم بين مدركات العامة والمكان والزمن. الشاعر الحقيقي يجب عليه أن يقترب من الأحلام أكثر و الأوهام أكثر وأكثر، بحيث يلامس أحداث الحياة بخفة ومرونة أخف من نورس يلامس بارجة عابرة، أو طفل يقطف وردة على غفلة؛ إذ عليه أن يثق بقوة ما يشعر ويحدس به؛ لأن شعور الإنسان تاريخه الصادق في الحياة وهنا أستعيد مقولة جبران خليل جبران «الشعر ومض البرق». أي قوة الخطف التي لا تدع للعقل أن يحضر أثناء النزف الشعري؛ لأن إذا حضر العقل خطوة تراجع الشعر خطوتين على حد قول الشاعر محمد الماغوط، والتفكير عند كتابة الشعر ضربا من الخيانة لحساسيته ونداوته؛ لذلك علينا أن نستعين بالروح العاقلة، كما يستحضرها الرواقيون لمعرفة الموجودات والإحساس بها.

هل تستعين بالحُب لكتابة القصيدة؟

نعم، دائما لدي طاقة الحب التي تعني ائتلاف كل أشياء الحياة بصفاء كامل؛ حتى عند ملاحقة الأموات وذكرياتهم والكتابة عنهم أعده نوعا من التوحد العاطفي الحميم في الحب. أظن أن طاقة الشعر تتسامى في الإخلاص الكامل لمعنى اللطافة والإنسانية لجميع الكائنات، وهذا أساسه شفافية الداخل والطراوة بالمعنى الروحي المتوهج، وكما يقال: «بإمكاننا عمل الكثير بالحق، ولكن بالحب أكثر و أكثر»، بالحب نستطيع أن نجد الطمأنينة والسكينة وانهمار الخيال.

إصدار المجموعات الشعرية هل هو مرتبط بالكم أو الكيف؟.. وماذا عن الحضور والظهور للشاعر؟

يقينا مرتبط بالكيفية التي تجعل الشعر أكثر حساسية وانسجاما مع الحياة، ولا جدوى أبدا من النشر القاحل الذي ليس فيه تلك الهسهسة العالية واللمعان، وكأن في اللغة رقرقة غدران صافية، فالكتابة الشعرية الكثيرة تفسد جدواها ومهمتها الأدبية، ومعظم الشعراء الذين كتبوا كثيرا أدركوا سر جمال ندرة الشعر واختصاره بعد ما نشروا الكثير من دون فائدة غير التكرار الساذج؛ لأن الشعر ليس مادة تاريخية أو جغرافية واصفة، وإنما قدرة خاطفة على اقتناص الحياة، والمتتبع الحصيف للشعر برمته، هل يتذكر شعرا كثيرا لطرفة بن العبد والحطيئة والمتنبي وابن الرومي ومالك بن الريب وأحمد المجاطي ولوتريامون وغيرهم، حتى الشاعر الكبير محمود درويش قال في أحد لقاءاته: ليتني أستطيع أن أحذف مجموعاتي الشعرية المهللة ذات الصوت المنخفض الخائر المرتبك الحاسر في الرؤيا.

أ تخدم المهرجانات متخيل الشاعر أم هي مجرد لقاء بالأصدقاء من جغرافيات متعددة؟

المهرجانات يمكن اعتبارها نافذة لعودة الشاعر كي يتصالح مع الوجود.

أشفق كثيرا على الذين يظنون أن المهرجانات تعيد لهم طاقتهم الشعرية، وأعتبرها أكبر سالب لرهافة الشعر وفتنته، وهذه ليست دعوة لعدم المشاركة، وإنما دعوة لعدم الإكثار من الضوء؛ لأن في وجهة نظري الشعر ليس قطيعا من الأوهام اللامعة في المحافل، وليس الراية الشامخة التي تتسامى، كي تبهج الجميع، بل هو تلك الرقة الباهرة التي تصدرها شمعة وحيدة في الظلام؛ ولهذا نجد معظم الذين تماهوا في الأضواء بشدة فقدوا تدريجيا دهشة الشعر وسريان عذوبته؛ لأنهم لم يعدوا أطفالا في مشاعرهم؛ إذ صاروا يلاحقون الجزء المادي من الحياة، والشعر يحتاج إلى براءة الطفولة الحالمة؛ لذلك تعجبني كثيرا فكرة النيرفانا الموجودة في بعض الديانات الشرقية التي تعني إفناء الذات من العالم الخارجي عبر القدرة على الانكفاء في أعماق النفس؛ من أجل إعطاء الأنا حقها في التأمل والهدوء وإدراك صور أخرى للعالم.

ما هو أول باب تفتحه لك القصيدة عند لقائك بها؟

باب الحلم، أشعر وكأنني بلا مكان ولا زمان. أجدني أغرق في فسحة بعيدة عن كل مرايا الواقع، فأنا عادة عندما أكتب النص الشعري أتجرد من الوعي الذهني الصارم وأكون وحدي في فضاء زمني خاص جدا منعزلا عن كل ما يحدث حولي تاركا روحي تتعالق مع صور كثيرة في الذاكرة أشخاص وطيور وأشجار ونجوم وبحار وجبال ورمال... أشياء لا يمكن حصرها أراها تسرح أمامي كالغيوم وأحاول تشكيلها عبر الهاجس الذي ينتابني، وكأن عاصفة هبت على قرية فجأة وأحاول أن أكتب ذلك الضباب العارم قبل أن يتلاشى. إنني أستكين في الانزواء كاملا عند كتابة الشعر ولا أفكر في أي موضوع خارجي.

في ظل ما يحدث لإخواننا في فلسطين.. أليست هذه ساحة خصبة لنمو القصائد، وفضاء ليعلو صدى الشعر، متحدثا بصوت الشعوب العربية؟

في قضية فلسطين الكلمات حاسرة وخجولة جدا؛ لأن الألم فاض عن ماء القلب ولم يعد هناك سبيل لاستعادته، إذ هناك فجوة كبيرة بين الروح والجسد، والمسافة بينهما أصبحت مجرد بالونات ملونة، ولا وجود لتجاسر حقيقي يدفعنا لنكتب أو ننشد ما يقوله الغرباء عن أوطانهم.

غدت قضية فلسطين أكبر من الشعر ومن اللغة حتى في تجلياتها القصوى. أظن أن الصمت أقوى بكثير من الكلام، خاصة لدينا نحن الذين سكنا في كهوف الشعر الجارح منذ طفولتنا، فلا يهمنا أن نكتب عن واقع ما، بقدر ما يهمنا أن نبكي على عمر ضائع في السراب، لقد وجدنا أرواحنا تغرق في جراح كثيرة ليس لها منتهى.

ترجمة الشعر هل هي خيانة أنيقة للنص الأصلي؟

أعجبتني عبارة (هي خيانة أنيقة)، نعم كذلك تماما، فمهما تعالت الترجمة لا تصل إلى الفضاءات المقصودة للروح الشاعرة، ولكن هذا لا يعني عدم وجود مترجمين لديهم حساسية عالية في الترجمة، ولديهم ألم ضبابية اللغة الخاطفة وزرقتها، ومنهم على الصعيد العربي مثلا: سركون بولص وسعدي يوسف وأدونيس وغسان الخنيزي ومبارك وساط ومحمد الضبع.

ومنهم أيضا لدينا في عمان على سبيل المثال: خالد البلوشي وأحمد الرحبي وبدر الجهوري ومريم الغافري ويعقوب المفرجي، وعهود المخيني ومحمد الصارمي، وربما الحديث عن الترجمة هو حديث عن رفرفة الفراشات فوق الماء، فهي تلامسه دون أن تحدث ضجة أو ارتباكا في صورته وجريانه.

ما الذي يحضّر له إسحاق الخنجري حاليا؟

ترهقني كثيرا علائق الصور الممتدة مع الأموات، وأحاول أن أجسدها في مراثٍ مختلفة تتشابك وتتعالى في فضاء واحد؛ لهذا أشتغل في هذه الفترة على مجموعة خالصة لثيمة الموت وما ينتجه من اغتراب حاد للروح، أصف ذلك التصدع والحطام الذي لا يتحمله وعل عالق في ثلم، وأصف مخالب الأوهام حين تغدو كأسد ينقض فجأة على فريس، أصف الذكريات التي تمتد ولا تتوقف وتنتشر في النفس كالنار في الهشيم، أحاول أن أكتب عن هذا الكائن البويهمي العدمي الساحق الذي يباغتنا فجأة، دون أن نرى ملامحه، أو نشم رائحته، فقط نرى قبضته المحكمة وأشواكه القاسية تنغرس في الجسد، ولا أحد يستطيع أن ينبس بكلمة واحدة.