1743407
1743407
ترجمة

هذه هي مهمة الكاتب الوحيدة: أن يكون حرا

06 سبتمبر 2021
06 سبتمبر 2021

ريتشارد فلاناجان -

ترجمة: أحمد شافعي -

غريب أن أجعل حرية الكتابة موضوعي، وأنا القادم من جزيرة كانت على مدار ربع تاريخها مجتمعًا للعبيد. وعلى الرغم من وجود اختلافات كبيرة، لكن أدب الحقبة يزخر بمقارنات بين مجتمع مستعمرة العقاب التابع للتاج البريطاني عندنا، ومجتمعات العبيد في الأمريكتين.

لقد جيء بأسلافي سجناء مدانين من أيرلندا، وكثيرًا ما نقلوا في سفن تماثل أشكالها وأوضاعها السفن التي نقلت الأفارقة إلى العبودية الأمريكية، وهي كذلك سفن تمارس تجارة مماثلة وإن بشحنة مختلفة اللون ووجهة مختلفة يجري فيها كثير من الممارسات المماثلة بل، ويعمل فيها إداريون سبق لهم العمل في مستعمرات العبيد بالكاريبي.

غير أن الندوب المؤسِّسة لجزيرتي نجمت عن جرح ثان، أعني جرح الإبادة الجماعية شبه التامة لسكان تسمانيا الأصليين. إلى يومنا هذا نجد أن أغلب أبناء تسمانيا هم من سلالة الناجين من تلك الصدمة المزدوجة. ولقد سمِّيت الحرب في ذلك الوقت، بدقة كونرادية، حرب إبادة. وقد امتدت تلك الإبادة، حسبما لاحظ الكثيرون آنذاك ولاحقًا حتى شملت آخرين ـ من قبيل طائر الدرميس التسماني والنمر التسماني ـ وكأنما تحتَّم محو عالم من الأعاجيب طمسًا للجريمة. ومع ذلك العالم، استؤصلت الذاكرة وفرض الصمت. وأصبح لا سبيل إلى الجهر بأشياء، أشياء كثيرة صنِّفت في فئة ما لا يقال.

قد يصح تعريفنا كسلالة من خلال مقدرتنا على النسيان، لكن الحرية لا وجود لها إلا في فضاء الذاكرة.

ولدت على مسافة أقل من ميل من مزرعة بعث للأشغال الشاقة فيها جدُّ جد جدي بوصفه مجرما مدانا. كانت حرية الكتابة في خطوتها الأولى هي حرية التفكير، ورؤية المرء لنفسه كائنًا حرًا، وهي فكرة استغرق تشكلها قرنا من الزمن. حرية الكتابة هي حرية قول ما لا سبيل إلى قوله، ولكي أقوله كان عليَّ أن أستعصر من نفسي دم المدانين قطرة بعد قطرة، وكلمة بعد جملة بعد كتاب.

وفيما أتخيل كيف السبيل إلى ذلك، غالبا ما نظرت إلى الكتَّاب الأمريكيين الأفارقة من أمثال رالف إليسن وجيمس بولدوِن وتوني موريسن، الذين اكتشفت جزيرتي في عالمهم، واكتشفت أنني أنتمي في آن واحد إلى جزيرتي الصغيرة وإلى عالم الأدب، وتعلمت أنني لا أتنكر إلى أيٍّ منهما إلا وأتنكر إلى بعض من نفسي.

لكي أكتب كان عليَّ أن أكون حرًا، ولكي أكون حرًا كان عليَّ أن أكتب.

وتلك بالنسبة للكاتب هي المهمة، المهمة الوحيدة.

أن يكون حرًا.

وحرية الكاتب تعترضها أشياء كثيرة. في أستراليا بلدي الذي يزداد مجتمعنا فيه افتقارًا إلى المساواة، يمتلك الأكثر ثراءً ونفوذًا ميزة استعمال قوانين التشهير الوحشية يخرسون بها أصوات الآخرين، في حين تمتلك الدولة بصفة متزايدة قوانين «أمن وطني» قمعية تتعدى كثيرًا على حرية التعبير إلى حد مداهمة منازل الصحفيين ومقر الإذاعة الوطنية العامة ردًا على تحقيقهم في جرائم حرب كبيرة ارتكبها جنود أستراليون ثم مقاضاتهم بعد ذلك.

تجمَّدت ممارسة الصحافة في أستراليا على يد نائبنا العام السابق ـ المسؤول عن مداهمة بيوت الصحفيين ومقاضاتهم ـ إذ لاحق في القضاء صحفيا ومذيعا بسبب تقرير حول سياسي مجهول الاسم زُعم أنه قام باغتصاب لحَدَث، بعدما تعرف النائب العام على نفسه في التقرير وأنكر الاتهامات، ثم قام بتسوية القضية بعد شهور من الجدل القانوني باهظ التكلفة.

لكنني أريد أن أتكلم هنا عن جانب آخر من حرية الكاتب.

واقع الأمر أن حرية الكتابة تتنكر في هيئة حقيقة غير بارزة. حرية الكتابة ـ لكن كتابة ماذا؟ لأن المهم ـ المهم دائمًا ـ هو أن يكون المرء في النهاية حرا في أن يكتب ما لا سبيل إلى قوله، ما ليس مسموحًا بقوله، أن يمزق أسمال السلطة والثروة وما يعلق فيهما من قناعات جامدة، لتصف من بعد هذا ما لا سبيل إلى قوله.

وإلا فإن أغلب الكتاب في أغلب الأماكن أحرار في أن يكتبوا. ويجب ألا ننسى أن البلاد الاستبدادية كثيرًا ما تخص الكتاب بمكان أرفع وأحظى بالمزايا مما تفعل البلاد الديمقراطية، فهو سجن مخملي تلذ للكتاب في أكثر الحالات سكناه. هم أحرار أن يكتبوا أي شيء يرغبون في كتاباته، ما دام الذي يرغبون في كتابته هو الذي ترغب السلطة في كتابته، ويقصرون أنفسهم على قول ما يمكن قوله.

وهنا مكمن المشكلة.

لعل أسخف الخيالات الخبيثة الكثيرة التي يبيعها الكتّاب لأنفسهم، وللآخرين كلما سنحت الفرصة، هو أن الكتّاب يرغبون في كتابة الحقيقة.

وما من شيء بالطبع أبعد عن الحقيقة من هذه الكذبة.

وتكتسي الكذبة بهراءات مريحة. ومن هذه الهراءات التي يغرم بها الكتاب أن الحقيقة تشق طريقها بغاية اليسر. لكن الحقيقة لا تشق إلا الطريق بقائلها إلى الهاوية، شخصيا، وبسرعة.

والكتَّاب، عموما، ليسوا حمقى فلا يعرفون هذا، مهما تظاهروا بعكس ذلك.

فمشكلة مرسو القاتلة في «الغريب» لكامو لا تتمثل في أنه قتل رجلا آخر بل في قتله رجلا آخر لا يستطيع أن يكذب بشأن سبب قتله، ولذلك أعدموه. لقوله الحقيقة. وهذا مؤثر بقدر ما هو كوميدي، ومن هنا عمق تأثيره. وأيضا إمعانه في البعد عن الواقعية.

كلنا نكذب بشأن أسبابنا عسى أن نعيش، وعندما تصعب الأمور، يكون الكتاب والفنانون بعامة أسرع انقلابا من أغلب من عداهم. ولقد أشار وليم هازليت ذات مرة إلى أنه في مقابل كل طاغية يولد، يولد أيضا ألف رجل مستعد للاستعباد. ولعلنا نزيد عليه بأن من ذلك الألف دائما عددا غير متناسب من الفنانين والكتاب.

وكيف لا يكون ذلك؟ وكلٌّ منا يعيش حربا بين الحاجة إلى التواؤم حصولا على المأوى والمأكل والأمن من ناحية وبين الرغبة في الحرية لأرواحنا من ناحية مقابلة. ونحن نفهم أن الأمرين ضروريان لنا، لكنهما نادرًا ما يكونان على وفاق. وما حياتنا إلا مسيرة وسط الركام الناجم عن هذه الحرب، وما شخصيتنا إلى خريطة الرحلة.

ثمة وهم آخر لدى الكتّاب مفاده أنهم صوت الناس. ولهذه الفكرة تاريخ طويل منحه شيلي لسانا مجيدا، حين قضى بأن الشعراء هم مشرعو العالم غير المعترف بهم. بعد مائة سنة، وفي حين أصبحت القومية هي المبدأ الجديد المنظم للمجتمعات، استهلالا لقرن من الأهوال، ضاقت إلى حد ما آمال ما بعد الثورة الفرنسية العريضةُ التي خايلت شيلي حتى أن أعلن جويس قائلا: «إنني صائغ في ورشة حدادة روحي ضميرا لسلالتي غير الذي خلق لي». جنون الفردانية هذا يخفي غطرسة: فالحال ينتهي بالمشرع غير المعترف به وقد اشترته السلطة نفرا في جماعة ضغط تابعة لها، ولا يخرج من ورشة الحداد في أكثر الحالات إلا نصير لهذه الأيديولوجية أو تلك.

ومن أجل ذلك السبب، لا يكون الكتاب والفنانون في الغالب أبطالا لشعوبهم وبطلات. بل هم يتواءمون في الغالب، بسلاسة، مع النظام الجديد مهما يكن، أحرارا في الكتابة ما بقوا يكتبون كتابات محددة في أمور محددة. والأرجح لمن ينشد الوجهة في مجتمع فاسد أن يكون الحلاق والسباك أصلح قدوة أخلاقية له من الروائي والمسرحي.

لقد لاحظ كلاوس مان، الذي نشر سنة 1936 رواية ميفستو Mephisto المفيدة في هذا الموضوع قبل سنوات قليلة من صعود النازيين إلى السلطة، بعدما استعصت مقاومة هذا الصعود، كثرة المثقفين والفنانين الذين أخذوا ينتقلون إلى صف النازيين لا عن تعاطف مع النازية، ولكن لأن الطاقة والمستقبل كانا معها.

في مقالة كتبت سنة 1999، يصف روبرتو بولانيو كيف أن شابة ذات طموحات أدبية عملت هي وزوجها الأمريكي لحساب الشرطة السرية التشيلية ـ في عهد بينوشيه ـ وربما لحساب المخابرات الأمريكية، وكان لديهما بيت ضخم دأبت على إقامة أمسيات أدبية في أعلاه وتعذيب سجناء سياسيين في أدناه. يتساءل بولانيو إن كان الكتاب الذين يترددون على البيت «يتذكرون انزعاجهم من ارتعاشات [كانت] تطرأ على التيار الكهربائي فتؤدي إلى ارتعاش المصابيح وتوقف الموسيقى، ومن ثم تعطل الرقص. مؤكد بالمثل أنهم ما كانوا يعرفون شيئًا عن رقصة موازية تمس فيها لطمة المهماز باطن ركبة المعذَّب يسري تيار صاعق»

وهكذا، في ما يخلص إليه بولانيو، يقام بنيان الأدب في كل بلد.

وكلمة «الأدب» عند بولانيو تحمل في الغالب معنى مبهما، بل ومزدرى ـ والكلمة هنا تعني من الكتابة ما يدعم رقصة الرعب الموازية، الأدب الذي لا يواجه سؤالا، أدب العقيدة الجامدة المقبولة.

لأمريكا راقصوها الموازون لراقصينا في أستراليا، نحن السكان الأصليين الذين نموت بأعداد هائلة في الاعتقال، واللاجئين المحبوسين في مسارح الوحشية على جزر الهادي النائية.

لكن الاعتراف بالراقصين الموازين لا يعني قصر الكتابة فورا فلا تكون إلا عنهم، ولهم، ومنهم. لأن مناهضة الرقصة الموازية تكون بمناهضة عقائد العصر الجامدة. هي حرية كتابة لا ما يملى علينا، بل ما نمر به من تجارب، وفي عالم التجارب ذلك لا بد أن تكون للخيال اختراعاته الشاسعة. لا بد من خيال، أي تجربة لا تؤصلها تجربة. لا بد من تمزيق للأسوار الحدودية بين أنا وأنتم، بيني وبينكم، لا بد من خرق في السلك الشائك الفاصل بين روح وروح.

لقد كان العمل الضروري النبيل الذي يقوم به نادي القلم الدولي PEN على مدار زهاء قرن من الزمن هو محاربة القيود الخارجية التي تمنع الكاتب من الكتابة، أو التي - في حالة أسوأ من هذه - تسجن الكتاب وتقتلهم بسبب ما كتبوه أو ما قد يكتبونه.

لكننا نعيش في عصر آخر.

وعلينا أن ندرك أشكالًا جديدةً وسبلًا جديدة للرقابة. حريتك الداخلية في أن تكتب ما تفكر فيه وتشعر به، ما تعرفه وما تمر به من تجارب، هي دائما صعبة، وهي في أكثر الحالات أصعب المعارك. لكنها تزداد صعوبة. فنحن مرة أخرى نعيش عصر رقابة وما يربكنا هو أن الرقباء الجدد ليسوا الدولة وليسوا كيانات الدولة. إنما هم نحن.

في غداة انهيار الاتحاد السوفييتي، اعتقدنا خطأ بأن التقدم المادي والحرية الإنسانية متلازمان، وأن الأول يقود بالضرورة إلى الثانية. ولكن من الممكن، حسبما تبين لنا الصين على نحو مبهر، أن يزداد التقدم المادي وتقل الحرية عما كانت عليه في أي وقت. ولكن أعيننا عميت عن تآكل الحرية الذي جلبه علينا التقدم المادي والانتصارات التكنولوجية التي جاءت في أذياله.

على مدار عقود قليلة بعد عام 1989 تصورنا في الغرب أن بوسعنا أن نتوقع غياب الرقابة. لكن مع تراجع المساواة في ما بيننا، ومع اكتشافنا في أنفسنا أننا نرى التعذيب فعلا مقبولا، واضطهاد اللاجئين ضرورة، والصمت شرطا مسبقا للتسامح، لم يتسنَّ لنا أن نرى تعرُّض شيء أساسي للتآكل.

المقبول الآن ليس مرتبا أو مفهوما، إنما يبلغنا من خلال دقائق المحاذير الاجتماعية الجديدة، ويفرض علينا من خلال إعلان لقائمة البذاءات الجديدة، والقذارات الجديدة، والضرورات الجديدة، والتجديفات الجديدة، التي نمتصها جميعا كأنما من خلال مسامنا ونعدها بمثابة الحس المشترك واللياقة والاحترام والمسؤولية.

وبرغم ذلك، لا يجب مطلقا أن تراعي الكتابة احتراما أو مسؤولية. فمنذ أن قام ابن لا مانشا باعتمار قاعدة المرحاض قبعة والخروج إلى العالم في محاكاة لما هو أعلى وأرفع، لم يعد الأدب العظيم يتعامل بجدية مع ورع عصره وصدقه. إنما هو يقاوم العقيدة والدوجما بعبثية الوجود، ضاحكا منها، مسائلا إياها، ومتلاعبا بها. ولئن كان دأب الأجيال الجديدة هو التعالي على كل من سبقوها، فإن سرفانتس وفولتير سخرا من الإيمان الديني واستهزاء بالمعتقدات الراسخة استهزاء لاذعا.

فهل نحن كذلك؟

تنشأ القيود الجديدة عن نضالات اجتماعية ضرورية ومهمة. لكن يقال للكتاب أحيانا ـ عند الملاحقة القضائية لقضايا وسياسات ـ ابقوا في مساراتكم. ومن يتخذون من الكتاب مواقف مختلفة أوهى الاختلاف يتعرضون للهجوم بوصفهم أعداء وما هم بأعداء. والذين يعجزون عن الالتزام بقواعد الطريق الجديدة يعانون من الازدراء والتلويث ويطالَبون في بعض الأحيان بإعلان التوبة.

ولطالما أردنا بالطبع العمل الذي يغازل غباءاتنا. ولكن هذا الضعف البشري يتضخم كثيرا ويقوى بفعل التقنيات الجديدة التي لا تخضع ـ في نهاية المطاف ـ للمساءلة إلا أمام كشوف الربح والخسارة الخاصة بأقوى الشركات في تاريخ الإنسانية.

ومن دواعي سرور كثير من الكتاب بالطبع أن يتواءموا، وأن يدينوا ـ في ثنايا تواؤمهم ـ رافضي التواؤم. وسيفعلون مثلما قالها شيموس هيني عن واحد من قومه المتحجرين منذ آلاف السنين: متواطئ/في غضبة متحضرة/لكنه متفهم تماما/الانتقام القبلي الحميم،/وهذا، أيضا، إنساني إلى أعمق حد.

على أن الانتقام الحميمي الدقيق المشحون بخوارزميات الجشع لا ينبغي أن يحدد مصير الكتّاب، كما لا ينبغي أن تقاس عليه الكتابة أو إبداعها.

وثمة ضرر أعمق يلحق بفكرة الكتابة ذاتها ـ وقدرتها ورغبتها في الاختراع الضروري، بضرورة القصة والخيال، وقدرتهما على الإحاطة بعوالم لا ينتمي إليها الكاتب أو القارئ، ولكنهما برغم ذلك يجدان نفسيهما فيها بعمق. وبهذا المعنى لا تكون حرية الكتابة في نهاية المطاف معركة مع قوى خارجية بقدر ما هي داخلية. وتصبح مسألة تتعلق بما كان يقال له في يوم من الأيام الشخصية، أو الروح. وليس من التبجُّح في شيء وصفها بالمعركة الروحية.

وفي تلك المعركة يكون قتالنا الدائم ضد عقائد التواؤم.

ليس بالكشف المبهر أن القومية أفضت إلى كثير من الكوارث الكبرى في القرن العشرين، ولم يقتصر ذلك على الأدب وحده. قبل حروب الإبادة الجماعية في البلقان، اشتهر عن الشاعر السلوفاني توماس شَلمُن قوله: «إنني اكتفيت من صورة قبيلتي/فمضيت عنها». أمَّا في هذه الأيام فالكتاب مرة أخرون يبحثون عن صورة للقبيلة يمضون إليها، مثلما سبق أن فعلوا مع الدين، ثم مع الإمبراطوريات، ثم مع الأمم، والآن مع الهوية. ولهذا التغير جذور وتبعات تاريخية عميقة أصيلة، لعل أبسطها - وإن يكن أعظمها بالنسبة لنا - هو أن رواية القومية العظيمة أفسحت المجال لرواية الهوية العظيمة. لكن لو أن القبائل تتغير، فالقبائل جميعها في النهاية لم تزل تطالب الموالين لها بالإيمان بالدوجما بحيث لا يتسنى لكاتب أن يكتب بحرية عما يؤمن به.

مؤكد أن زاوية النظر عند شلمن هرطقة مضاعفة، فقد كان يواجه القومية ويواجه أيضا أيديولوجية تيتو الحاكمة في زمنه.

ولكن ذلك غير منعدم السوابق. ففي روسيا ما بعد الثورة، سنة 1921، كان أول كتاب يمنع تداوله لانتقاده عقيدة القبيلة هو «نحن» ليفجيني زمياتين، وهو عبارة عن رواية من روايات الدستوبيا التي اتبعت 1984 لأوروِل وباتت الآن تعيث بمتاجر بيع الكتب.

قبل أن يبدأ زمياتين كتابة «نحن» كان قد قال: إن «من يعثر على قدوة له في أيامنا هذه إنما هو شبيه بامرأة لوط التي استحالت عمودا من الملح وغاصت في جوف الأرض فهي لا تملك أن تمضي قدما. والعالم لا يبقى حيا إلا بالهراطقة: المسيح المهرطق، وكوبرنيكوس المهرطق، وتولستوي المهرطق. إن رمزنا في الإيمان هو الهرطقة...». غير أن مصير الهراطقة ليس بالمصير الهين مثلما أدرك زمياتين نفسه بعد سنتين من حظر روايته «نحن»، فكتب أن الهراطقة «يبادون جزاء وفاقا بالنيران والبلطات والكلمات... إن هي إلا نحر رأس الأدب المهرطق الذي يتحدى الدوجما، هذا الأدب المؤذي. لولا أن الأدب المؤذي أنفع من الأدب النافع».

وسرعان ما لن يكون بالإمكان في روسيا ـ على حد قول إيزاك بابل في نكتة من أفضل نكاته السوداء التي ألقاها داخل اتحاد الكتاب السوفييت سنة 1934ـ إلا أن يكرس المرء نفسه لـ«أدب الصمت».

وتسقط الرأس تلو الرأس برصاص ستالين، ومنها رأس المهرطق إيزاك بابل.

كلنا نكتب في كابوس الظلام. لا مهرب لنا من دافعنا القبلي، ورغبتنا في التواؤم، ذلك أن منابعهما عميقة في قلوبنا عمق الحب والخير، ولعلها أعمق. ولكن الرواية، حينما تفلح، تمضي بالكاتب إلى ما وراء تاريخه وشخصيته، وتفلت به من أغلال سياساته وآرائه، ومن شأن خيمياء القصة أن تجعل روح الكاتب رابطا لإنسان واحد بالبشر كافة. في النهاية، لا تخرِّب الروايات ـ وهي الوسيط التخريبي العظيم ـ ما يحسب المجتمع أنه الصواب وحسب، بل تخرب معه ما يعتزم الكاتب نفسه كتابته.

تتيح الهرطقة للكاتب أن يكتب بحرية، لأن الكتابة فعل ابتهاج ينشأ من الموضع العميق الذي يحيا فيه الضحك، ليناقض مسخرة دوجما واقع الحياة. وذلك الابتهاج، وذلك الضحك، وذلك الاستخفاف، وذلك الدافع الهرطقي الذي يبدأ باعتمار قاعدة مرحاض على رأس مجنون، هو السبيل الوحيد للكتابة عند مواجهة حتى أشد جوانب الواقع إزعاجا، وهو الذي يظهر أمامنا اليوم في صورة الأزمة المناخية الوجودية. والتحدي الذي يواجه الكتاب في عصر الأنثروبوسين البيولوجي هو العثور على لغة حاوية للأمل والحزن. ولمواجهة هذا التحدي لا بد أن تكون الكتابة صوت النذير يعلو على صمت العقائد الجامدة، أن تكون الصوت المفرد المتصاعد غير القابل للإسكات.

تحتاج اللغة إلى أن تحتوي كلا من الأمل والحزن لا لأي اعتبارات جادة أو جديرة بالاهتمام، ولا لتكون داعمًا معنويًا في أزمنة سوداء، بل لأن الأمل هو الذي يدفعنا سلالةً إلى الأمام، ولأن الأمل هو الذي يبقينا أفرادًا على قيد الحياة. فحتى في معسكر الاعتقال، كان الذين يفقدون الأمل هم الذين يفقدون احترام زملائهم السجناء. وعلى أي أدب يتناول سوادا مثل الأزمة المناخية أن يتيح له احتواء أكثر سمات الحياة إنسانية وإلا فلن يكون تعبيرا صادقا عن أعمق حقائق البشر. حتى أشد الشعراء كآبة، فيليب لاركن، قال في أبقى بيت له إنه «لن يبقى منا غير الحب». وهذا بيت شعر رأى لاركن فيه ضعفا وأسف أنه كتبه.

فلعل البيت كشف – في نظر لاركن - عن فرط حساسية أو عاطفية. ربما رآه هرطقة على جمالياته المتشددة المتصلبة. ولكن البيت برغم ذلك عاش من بعده، ولعله في النهاية يكون الباقي الوحيد من أعماله على مدار عمره. لا يبقى من لاركن غير بيت عما لن يبقى منا نحن سواه.

ربما لكي يكتب أي منا عن الأمل، أو يكتب عن الحب، لا بد أن نتعلم مرة أخرى أن نكون أحرارًا ونتبنى الهرطقة. ولكي يحدث هذا لا بد أن نكتب كل يوم حتى نخرج بأنفسنا من أدب الصمت.

إننا جميعا أبناء شيء ما، وعلينا بالقدر نفسه أن نتحرر من هذا الشيء. وهذا بالنسبة لي هو وعد الأدب.

أنني لست واحدًا. وأنني لست وحدي. وأنني حر.

ألقيت نسخة من هذه المقالة بوصفها محاضرة آرثر ميلر لنادي القلم الدولي في 2021، ونشر نصها في ذي منثلي.

كاتب المقال هو الروائي الأسترالي الفائز بجائزة مانبوكر عن روايته «الطريق الضيق إلى الشمال العميق»، صدرت روايته الأحدث هذا العام بعنوان «بحر أحلام الصحو الحي».