No Image
العرب والعالم

عندما تصبح العودة إلى ركام المنازل المدمرة حلم النازحين

05 مايو 2024
مأساة لا تطاق في حياة الخيام برفح..
05 مايو 2024

للشهر الثامن على التوالي وأهل غزة وشمالها ما زالوا نازحين قسرًا من مناطق سكناهم إلى أقصى جنوب قطاع غزة وتحديدًا في مدينة رفح ينتظرون على أحر من الجمر انتهاء معاناة النزوح والعودة إلى بيوتهم وأهلهم وذويهم الذين رفضوا النزوح وتحمَّلوا مرارة الحرب والجوع والعطش وانتشار الأمراض والإبادة الجماعية الانتقامية التي مارستها عليهم آلة الحرب الصهيونية منذ السابع من أكتوبر حتى هذه اللحظة.

يأمل النازحون جميعهم العودة إلى ديارهم حتى لو كان عبارة عن حطام وركام، في تأكيد منهم على تمسكهم بالأرض الفلسطينية ورفض أي مقترح يتحدث عن تهجيرهم خارج قطاع غزة، يتابعون الأخبار لحظة بلحظة لسماع نبأ التوصل إلى إقرار هدنة أو وقف إطلاق النار وعودتهم إلى بيوتهم في شمال ومدينة غزة.

وقبل أن استطلع آراء بعض النازحين عن حياتهم داخل الخيام أود التعريج على طبيعة مدينة رفح بحسب ما ورد عن جهاز الإحصاء الفلسطيني «قُدر عدد السكان المقيمين في محافظة رفح لغاية 22/04/2024 بحوالي مليون ومائة ألف فرد يعيشون في مساحة 63.1 كم2 حيث كانت قد بلغت كثافة السكان في رفح عشية العدوان 4,360 فردا لكل كم2، لتصل الآن إلى حوالي 17,500 فرد لكل كم2 وهو ما يشكّل كارثة إنسانية وبيئية وضغط هائل على الخدمات الشحيحة والقدرة على الحصول على أبسط سبل الحياة في ظل العدوان».

أما رئيس لجنة الطوارئ في بلدية رفح فقال «إن عدد سكان مدينة رفح الأصلي هو 300 ألف نسمة، بينما عدد النازحين في مراكز إيواء وكالة الغوث وصل إلى 713 ألف نسمة، أما عدد النازحين في الساحات والشوارع فقد بلغ 268 ألف نسمة؛ بمعنى يوجد في مدينة رفح الآن ما يقارب 1.300.000 نسمة».

الخيام متناثرة في كل مكان، في الشوارع الرئيسية والفرعية والأزقة، في المدارس والنوادي ورياض الأطفال والجامعات، فوق أسطح البنايات، على شاطئ البحر، في مراكز وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، في كل أرجاء المدينة قصص وحكايات للمعاناة والنزوح والآلام.

استوقفني أحد الأشخاص الذي سألني سؤالا وترك الإجابة لنفسه: ما هي الخيمة؟

«الخيمة هي أن تحترق وأنت تجلس بداخلها، أن يضيق نفسك وتختنق فلا يوجد هواء ولا أي وسيلة للتبريد، هي شيء كالدفيئات الزراعية ساعات النهار، الخيمة أن تعيش على الأرض لا يفصلك عما حولك سوى قماش، لتتعايش مع حشرات الأرض جميعها فأنت ضيفها الآن، الأمور التقليديّة تصبح معقدة جدًا كأن تأخذ قيلولة أو تغتسل، أن تمشي براحة، أن تجلس في سكينة، أن تشعر بالأمان، أن تستقر وحدك في مكان، أن لا تتعب ولا تتألم من النوم على الأرض.. كل هذا غير موجود!».

ثم أكمل حديثه قائلًا «الخيمة هي انعدام الخصوصية، أن تتحدث همسًا داخل خيمتك، لتجد حديثك منتشرًا بين الخيام، وإن أرخيت سمعك قليلًا ستسمع همساتهم وثورات الغضب المكتوم، وبكاء الأطفال دون أن تحاول أمهاتهم كتمه!».

«أن تصبح الأمراض شيئًا معتادًا تمامًا، أن يلعب أطفالك بكل ما تحويّه الأرض، بعد أن فقدوا كل ألعابهم.. أن تجد أحدًا ينظر لداخل خيمتك ويدخل ليطلب أمرًا ما، فلا باب للخيمة لطرقه، أن تتعايش مع الحمام بهيئته البدائية، وأن تنسى ترف النظافة الذي اعتدته، أن تصبح رائحة دخان النار رائحة جلدك حتى وإن استطعت الاستحمام، أن يعرف كل من يجاورك ألوان ملابسك وقياساتها؛ فحبل الغسيل مشترك».

هذه هي الخيمة باختصار لمن لا يعرفها.

نازحة من مدينة غزة قالت «الحر في الخيمة لا يشبه الحر في أي مكان آخر، تحتها رمل حار جدًّا، حولك آلاف الحشرات التي لم تعرفها في حياتك، النايلون الذي تُصنع منه الخيمة يجمع الحرارة ويضاعفها، فتجد نفسك داخل صهريج محترق، الماء الشحيح الذي بالكاد تحصل عليه حارًّا جدًّا أيضًا، فليست هناك وسيلة تبرّد فيها جسدك الذي يتصاعد منه الدخان، كل وسائل التبريد غير متاحة، فلا كهرباء، ولا محركات، ولا طاقة تشغل المراوح».

كانت تمسح بوجهها بواسطة منديل وهي تكمل حديثها عن مأساتها «مع كل ذلك العذاب هناك مهمات يومية يجب أن تُنجز، طوابير الفرن، طوابير الماء المالح، طوابير الماء العذب، طوابير الحمامات، إيقاد النار، إعداد الطعام، العجين، الجلي، الغسيل، ترتيب الخيمة الضيقة، هذه حياتنا منذ أكثر من سبعة أشهر».

أما كاري فكان لها رأي آخر فقالت «في شهر يناير الماضي يعني في (الأربعينية) وعز البرد، ما كنت أقدر استحمل أقعد في الخيمة في وقت الظهر (عند اشتداد الشمس مع حاجتنا لها للدفء) ودرجة الحرارة تكون ١٤°م أو ١٥°م، والخيمة تكون زي الفرن، تخيلي اليوم كيف الناس قاعدة في الخِيَم في درجة حرارة أكتر من ٣٠°م، دون أدنى مقومات للحياة مع شح شديد في المياه، يعني إذا أردتِ غسل وجهك مش ح تكفي الميَّه لغسل الأواني أو غسل الملابس. أن تشتهي كوبا من الماء البارد وأنت داخل الخيمة وكوبا من العصير البارد وتسترجع أيامك القديمة التي كنت تعيشها ولا تلقي بالا لها أن يأتي عليك وتتمنى أن تحصل عليه، أصبحت أقصى أمانينا هذا الكوب في هذا الجو الساخن من قلب خيمة النزوح».

أما الصحفي محمد جعفر الباز فكان له رأي آخر حين قال

«الخيمة قهر ومهانة وإذلال لكينونتنا لآدميتنا أجلس مع شريكة العمر الوفية والأبناء الأعزاء والأحفاد الغاليين في ظل خيمة ومحيط عجيب من المعاملات والبشر لا لون لهم ولا طعم، زجاجة المياه غير موجودة وإن وُجِدت فباهظة الثمن، لقد وصلت قيمة كيلو السكر لعشرين دولارا، خمسة أشهر لم نر فيها شكل الدجاج أو اللحم، وحاليا أسعارها ما بين السماء والأرض، كل يوم في حال وقس على ذلك كل شيء».

ورغم أن الآثار التدميرية لحرب الإبادة «الإسرائيلية» في قطاع غزة، تفوق آثار جميع الحروب في هذا القرن مجتمعة بل تتجاوز ذلك للتفوق في دمارها على دمار العديد من المدن الألمانية في الحرب العالمية الثانية مثل دريسدن وكولون إلا أن النازحين يتنظرون بفارغ الصبر العودة إلى بيوتهم.

رغم أن حجم الدمار في قطاع غزة يُقدّر بنحو 60% من المباني المدنية في غزة إما بشكل كلي أو جزئي، وتشهد بعض المناطق معدلات تقترب من 75% من المنشآت والمباني.

وقد كشفت الإحصائيات عن أثر التدمير الإسرائيلي الممنهج للحياة في غزة حيث تم هدم 69000 منزل، وتضرر 290000 منزل، وأن نصف مليون إنسان من المليون ونصف مليون المهجرين قسريا لن يجدوا أي أثر لمنازلهم ليعودوا إليها،

لقد استهدف الجيش الإسرائيلي البنية التحتية المدنية في انتهاك صارخ للقانون الإنساني وبالإشارة إلى تقرير UNOSAT الذي يُفصل الهدم المتعمد للبنية التحتية المدنية.

وحسب التقديرات الحكومية فقد شنت طائرات الاحتلال الحربية أكثر من ألف غارة جوية على قطاع غزة خلال الأشهر الثلاثة الأولى فقط من حرب الإبادة بمتوسط ألف قنبلة يوميا في الأسبوع الأول، وينافس هذا القصف الكثافة التي شهدها التاريخ خلال حرب فيتنام.

إن المعاناة العميقة التي يتحمّلها المدنيون الأبرياء في غزة نتيجة حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة تؤكد ضرورة التدخل الدولي الفوري للضغط على دولة الاحتلال الإسرائيلي لوقف جرائم حربها الإبادية بما في ذلك منعها لتدفق المساعدات الإنسانية التي تشتد الحاجة إليها بوجود 2.3 مليون مواطن فلسطيني محاصر في غزة.

والضغط من أجل السماح بعودة النازحين قسرًا إلى بيوتهم بالتزامن مع إقرار آلية دولية لإعمار ما تم هدمه من منازل المواطنين في قطاع غزة.