خرق النار وأربعينية الشتاء.. اعتداءات متزامنة من غزة إلى القدس
غزة- «عُمان»- بهاء طباسي: استيقظ قطاع غزة فجر اليوم، على جولة جديدة من القصف وإطلاق النار، لتتجدد فصول الخرق الميداني الإسرائيلي بالتوازي مع منخفضٍ جويٍّ قاسٍ بلغ ذروته في أربعينية الشتاء. .. غارات جوية، وقصف مدفعي، ونيران من الزوارق الحربية رسمت ملامح صباحٍ مضطرب في جنوب القطاع وشرقه، فيما ظلّ التحليق المكثف لطائرات الاستطلاع يحاصر سماء المدن. في وقتٍ كان يُفترض فيه أن يلتقط الغزيون أنفاسهم تحت مظلة وقف إطلاق النار الساري منذ أكتوبرالماضي،
وفي الشمال، لم يكن المشهد أقل قسوة تمثل في إصابات بالرصاص سُجّلت في محيط أحياء شرقي مدينة غزة، بينما امتدت نيران القناصة ورافعات الاحتلال إلى مناطق مأهولة خارج نطاق السيطرة الإسرائيلية.
وبين هذا وذاك، دفع المدنيون ثمن الخرق المستمر، حيث أعلنت مصادر طبية استشهاد امرأة بقصفٍ مدفعي شرقي خان يونس، لترتفع حصيلة الضحايا في سياق خروقاتٍ متراكمة تجاوزت —وفق وزارة الصحة— أكثر من 394 شهيدًا حتى مساء اليوم.
وتحت وطأة البرد القارس، كشفت «أربعينية الشتاء» عن هشاشة واقع الإيواء، إذ انهارت خيام وتبللت أغطية، وتحوّل الليل إلى اختبارٍ قاسٍ لقدرة الأطفال والرضع على الصمود. وفي مأساةٍ تُلخّص هذا الواقع، سُجّلت وفاة رضيعٍ بعمر شهر واحد نتيجة انخفاضٍ شديد في الحرارة، لتتداخل مأساة الحرب مع قسوة الطقس في لحظةٍ واحدة.
على امتداد الجغرافيا الفلسطينية، لم تتوقف الاعتداءات عند حدود غزة. ففي القدس، اقتحم مستوطنون باحات المسجد الأقصى بحماية الشرطة، فيما شهدت الضفة الغربية حملة اعتقالاتٍ واسعة طالت عشرات المواطنين في بيت لحم وأريحا ونابلس وطولكرم، في مشهدٍ يُكمل صورة التصعيد الشامل.
نيران الجنوب
وشنّت قوات الاحتلال صباح اليوم، سلسلة غارات على مناطق انتشار جيش الاحتلال شرقي مدينتي رفح وخان يونس جنوبي قطاع غزة، تخللتها جولات قصفٍ مدفعي وغارات جوية استهدفت حيّ الشيخ ناصر وبلدة بني سهيلا شرقي خان يونس. وتجدّد القصف الجوي وإطلاق النار من مروحيات إسرائيلية على مناطق الانتشار ذاتها، في خرقٍ جديد لاتفاق وقف إطلاق النار.
وفي عرض بحر خان يونس، أطلقت الزوارق الحربية قذائف ونيرانًا كثيفة باتجاه الساحل، ما أسفر عن سقوط إصابات في محيط منطقة فش فرش بفعل إطلاق النار المباشر. وعلى الأرض، أفادت مصادر محلية لـ«عُمان» باستشهاد امرأة جراء قصفٍ مدفعي طال بلدة بني سهيلا، شرقي خان يونس وسط حالة من الذعر بين السكان.
يقول يوسف أبو مرة، أحد سكان شرقي خان يونس، إن القصف أعاد إلى الأذهان ليالي الحرب الأولى، موضحًا أن دويّ الانفجارات كان قريبًا إلى حدٍّ أجبر العائلات على الاحتماء داخل منازل متضررة أصلًا. ويضيف أن إطلاق النار من المروحيات لم يتوقف لساعات، وأن الحركة في الشوارع شُلّت بالكامل.
ويتابع لـ«عُمان» أن الخوف تضاعف مع استمرار التحليق المنخفض لطائرات الاستطلاع، إذ بات السكان يشعرون بأن أي حركة قد تُستهدف، في ظل غياب أي مظلة حماية، واستمرار الخرق اليومي لوقف إطلاق النار.
قناصة الشمال
وبينما كانت نيران الجنوب تحصد أرواحًا جديدة، كانت سماء غزة تعجّ بطائرات الاستطلاع، فيما انتقلت الخروقات إلى الشمال، لتكتمل دائرة الاستهداف من رفح حتى أطراف مدينة غزة.
وشهدت أجواء مدينة غزة تحليقًا مكثفًا ومنخفضًا لطائرات الاستطلاع، تزامن مع إطلاق نار من رافعات الاحتلال والقناصة في محيط جبل الصوراني ومنتزه المحطة بحيّ التفاح شرقي المدينة. وأسفر ذلك عن إصابتين برصاص الاحتلال في مخيم حلاوة شمال القطاع، رغم وقوعهما خارج مناطق السيطرة الإسرائيلية.
وأفادت مصادر محلية بأن إطلاق النار جاء من المناطق الشرقية لحيّ التفاح، ما أثار حالة من الهلع بين الأهالي، ودفع العائلات إلى إبقاء أطفالها داخل المنازل لساعات طويلة، خشية تجدد الاستهداف.
برد قاتل
وفيما كانت الرصاصات تحاصر الأحياء، كان البرد القارس يحاصر الأجساد، ليكشف المنخفض الجوي عن وجهٍ آخر للمأساة، عنوانه العجز عن توفير الدفء.
أعلن الطبيب أحمد الفرا، مدير مستشفى التحرير للأطفال ضمن مجمع ناصر الطبي، وفاة الرضيع سعيد عابدين، البالغ من العمر شهرًا واحدًا، نتيجة البرد الشديد وانخفاض درجات الحرارة في قطاع غزة. وأوضح أن الطواقم الطبية كانت قد حذرت مسبقًا من مخاطر عدم الوقاية من انخفاض الحرارة، خصوصًا على الأطفال الرضع والخدّج.
وأضاف الفرا لـ«عُمان» أن العائلات لا تملك خيارًا سوى مواجهة البرد، في ظل غياب إعادة الإعمار وعدم توفير البيوت المتنقلة، وترك الناس في خيام ومنازل ومراكز إيواء مهدّمة. وبيّن أن الطفل وصل إلى قسم الحضانة والعناية المركزة بدرجة حرارة 30 مئوية، وهي أقل بكثير من المعدل الطبيعي، وفي حالة حرجة للغاية، ورغم محاولات الإنعاش والتنفس الصناعي وإعطاء المحاليل، توفي الطفل.
تجمد بين يدي أمه
المتحدث باسم الدفاع المدني في غزة محمود بصل أوضح أن طواقم الدفاع المدني تلقت أكثر من 5000 مناشدة واستغاثة منذ بدء المنخفضات الجوية، في وقت أسفرت فيه التداعيات عن وفاة 17 مواطنًا، بينهم أربعة أطفال نتيجة البرد القارس، بينما توفي الآخرون جراء انهيارات المباني.
يروي سعيد عابدين، والد الرضيع، أن البرد تسلل إلى خيمتهم، ليلة الخميس، حتى بات الليل قاسيًا لا يُحتمل، مشيرًا إلى أن الخيمة المائلة لم تعد قادرة على صدّ الرياح. ويضيف أن المنخفض الأخير ضاعف قسوة الطقس، خصوصًا مع الرطوبة القادمة من البحر.
ويتابع لـ«عُمان» أن رضيعه تجمّد بين يدي أمه أثناء النوم، ورغم مراقبته طوال الليل، إلا أن البرد كان أسرع من أي محاولة حماية. ومع الفجر، لاحظا انخفاض حرارة جسده وازرقاق لونه، فسارعا به إلى المستشفى، لكن القدر كان قد حسم الأمر.
خيام منهكة
لم تكن حادثة تجمد الطفل سعيد استثناء، بل جزءًا من مشهدٍ أوسع، حيث يعيش عشرات الآلاف تحت رحمة الطقس بلا مأوى ملائم ولا وسائل تدفئة.
يقول المواطن الفلسطيني محمود أبو سليم، أحد النازحين، إن الكبار كادوا يموتون من شدة البرد في تلك الليلة، فكيف بالرضع والأطفال الذين يعيشون في خيام ممزقة. ويوضح أن الأغطية مبتلة منذ العاصفة، ولا توجد وسائل تدفئة، ما يجعل الليل معركة للبقاء.
ويضيف لـ«عُمان» أن كثيرًا من العائلات باتت تسهر حتى الصباح خوفًا على أطفالها، في ظل انعدام أي دعم عاجل، واستمرار إغلاق المعابر الذي يحرمهم من أبسط مستلزمات الشتاء.
في مهب العواصف
أمام هذا الواقع، حذّرت المؤسسات الدولية من اتساع دائرة المتضررين، وسط عوائق تعرقل الاستجابة الإنسانية.
أعلنت الأمم المتحدة أن نحو 55 ألف عائلة فلسطينية تأثرت بالأمطار والعواصف الأخيرة في قطاع غزة، وتعرضت ممتلكاتها وأماكن إيوائها لأضرار جسيمة. وأوضح نائب المتحدث باسم الأمين العام، فرحان حق، أن تقديرات مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية تشير إلى تضرر أو تدمير مساكن وإيواءات في مختلف أنحاء القطاع.
وأشار إلى أن العواصف ألحقت أضرارًا بعشرات المساحات الصديقة للأطفال، ما عطّل أنشطة حماية الطفل، وأثر على قرابة 30 ألف طفل. كما حذّر من أن العوائق الإسرائيلية المستمرة لا تزال تعرقل توسيع نطاق التدخل الإنساني بالسرعة المطلوبة.
اقتحام الأقصى
وفيما تكشف تحذيرات الأمم المتحدة عن اتساع رقعة الكارثة الإنسانية في قطاع غزة بفعل الحرب والطقس القاسي، لم تتوقف سياسات الاحتلال عند حدود القطاع، بل امتد التصعيد إلى المسجد الأقصى.
اقتحم عشرات المستوطنين صباح الخميس باحات المسجد الأقصى في رابع أيام ما يُسمى عيد «الحانوكاه»، بحماية مشددة من شرطة الاحتلال، حيث اقتحم نحو 300 مستوطن باحات المسجد، بينهم طلبة يهود وعناصر شرطة، عبر باب المغاربة، ونفذوا جولات استفزازية أثارت توتر المصلين. ودعت جماعات متطرفة علنًا إلى إشعال الشموع داخل المسجد، بعد أن حاول مستوطنون في اليوم الأول إدخال شمعدان خشبي وفشلوا في إشعاله، ما اعتُبر تصعيدًا خطيرًا.
يقول فادي الدجاني، أحد حراس الأقصى، إن الاقتحام جرى وسط تضييق على المصلين، وإن الشرطة وفرت حماية كاملة للمستوطنين، ما فاقم التوتر في المكان. ويضيف لـ«عُمان» أن الدعوات العلنية لإشعال الشموع تُعدّ سابقة خطيرة تمسّ بحرمة المسجد، وأن هذه الممارسات باتت شبه يومية في ظل صمت دولي، ما يشجع المستوطنين على المضي قدمًا في استفزازاتهم.
كما رُصدت اعتداءات أخرى لمستوطنين في محيط الضفة الغربية، شملت اقتحام محيط منازل الفلسطينيين في سهل ترمسعيا شمال رام الله، مضايقات واستفزازات ليلية مستمرة على أطراف بلدة رابا جنوب شرق جنين، واقتحام محيط تجمع الحثرورة البدوي قرب الخان الأحمر جنوبي شرق القدس المحتلة، واستيلاء على منزل المقدسية أم ناصر الرجبي في حي بطن الهوى ببلدة سلوان، ونصب خيام إضافية في البؤرة الاستيطانية المقامة على جبل قماص بين بلدتي بيتا وأوصرين جنوب نابلس، إضافة إلى إطلاق رصاص في الأطراف الغربية من قرية كفر مالك بقضاء رام الله.
وأكد القيادي في حركة حماس ماجد أبو قطيش أن تصاعد الاقتحامات وأداء الطقوس العلنية داخل الأقصى يمثل اعتداءً خطيرًا على حرمة المسجد، وجزءًا من سياسة ممنهجة لفرض التقسيم الزماني والمكاني وتسريع التهويد، محذرًا من عواقب وخيمة لهذا التصعيد، وداعيًا الفلسطينيين إلى الرباط وشدّ الرحال دفاعًا عن المقدسات.
اعتقالات واسعة
ولتأمين اقتحامات المسجد الأقصى، شن جيش الاحتلال حملة اعتقالات واسعة في مناطق متفرقة من الضفة الغربية، فجر الخميس، في أشرس حملة خلال الأسابيع الأخيرة.
ففي قرية حوسان غرب بيت لحم، اعتُقل 11 مواطنًا بعد اقتحام الأحياء السكنية. وفي أريحا، اعتُقل المواطن محمد أحمد موسى جلايطة عقب اقتحام منزله وتفتيشه، وفق مدير نادي الأسير في أريحا والأغوار عيد براهمة. وفي نابلس، اعتقلت القوات مواطنًا من مخيم العين واعتدت على آخرين في مادما جنوبًا. كما اقتحمت بلدتي عنبتا وكفر اللبد شرق طولكرم واعتقلت شابين.
وتأتي هذه الاعتقالات في سياق التنسيق المباشر مع اقتحامات المستوطنين للأقصى، حيث يرافقها استهداف للممتلكات الفلسطينية، منها سرقة جرار زراعي وصهريج رش من المواطن محمد فواز أحمد صوافطة في خربة سلحب شمال شرق طوباس، واعتراض مركبات فلسطينية عند دوار المنيا جنوب بيت لحم، وكل ذلك يعكس سياسة إسرائيلية منهجية لفرض السيطرة والأمن القسري على مناطق متفرقة من الضفة الغربية.
