وهم ترامب بإنهاء حروب الشرق الأوسط

21 ديسمبر 2025
21 ديسمبر 2025

ترجمة: بدر بن خميس الظفري -

أثارت الاستراتيجية الجديدة للأمن القومي الأمريكي التي أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نقاشا محتدما حول موقع واشنطن المستقبلي في العالم، وحول بصمتها الأيديولوجية الواضحة المناهضة لليبرالية، فضلا عن مآلات العلاقات عبر الأطلسي في وقت بلغت فيه الحرب الروسية-الأوكرانية مرحلة حرجة.

تأتي هذه الرؤية الجديدة في إطار رفض أوسع للنظام الدولي الذي تشكل بعد الحرب الباردة. فهي تبتعد عن ثنائية «الديمقراطية في مواجهة الاستبداد» التي تبنتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن قبل ثلاثة أعوام فقط، وترفض صراحة هدف «الهيمنة الأمريكية الدائمة»، مفضلة الحديث عن «توازنات قوى عالمية وإقليمية».

ويعد الشرق الأوسط من المناطق التي تكتسب فيها هذه التوازنات أهمية خاصة، غير أن أهمية العقيدة الجديدة لا تنبع مما تقوله بقدر ما تنبع مما تتجاهله. وباختصار شديد، يبدو أن حقبة ما بعد هجمات 11 سبتمبر قد وصلت إلى نهايتها.

فالاستراتيجية الأمريكية الجديدة في الشرق الأوسط تهدف -بحسب نص الوثيقة- إلى «منع أي قوة معادية من الهيمنة على إمدادات النفط والغاز، أو على الممرات الاستراتيجية التي تمر عبرها، مع تجنب حروب لا نهاية لها استنزفتنا في تلك المنطقة بكلفة باهظة».

وبهذا، ترسم الوثيقة انعطافا جوهريا بعيدا عن الانخراط السياسي والعسكري العميق في الشرق الأوسط، وهو الانخراط الذي ميز السياسة الخارجية والدفاعية الأمريكية لعقود. ويبدو أن التركيز بات ينصب على ضمان تدفق الطاقة الحيوية واستمرار العلاقات التجارية، بدل الإبقاء على مسرح دائم للأزمات يتطلب إدارة متواصلة.

وكما هو الحال في أقسام أخرى من الاستراتيجية، يستند هذا التحول إلى إعادة تقييم للأولويات والمصالح الأمريكية، استنادا إلى افتراضات عدة، من بينها تحقيق الاستقلال الأمريكي في مجال الطاقة، وتراجع الخطر النووي الإيراني، والاتجاه - كما يفترض - نحو تسوية الصراعات الإقليمية. وتشير الوثيقة إلى أن الشرق الأوسط «لم يعد مصدر الإزعاج الدائم ولا الخطر الوشيك الذي كان عليه في السابق».

وبكلمات موجزة، توحي الاستراتيجية بالانتقال من «الحروب الأبدية» إلى تحميل أعباء الأمن الإقليمي لقوى المنطقة نفسها، فقد كان رفض الحروب المفتوحة مبدأ ثابتا في خطاب ترامب منذ ولايته الأولى، غير أن هذا المبدأ لم يدمج فعليا في استراتيجية الأمن القومي إلا خلال ولايته الثانية، فالتدخل العسكري المكثف، وبناء الدول، والقيادة المباشرة للأمن الإقليمي، باتت ـ وفق هذه الرؤية ـ من مخلفات الماضي. وسيجري التعامل مع الإرهاب دون خوض حروب برية واسعة النطاق، ناهيك عن المفارقة المتمثلة في أن شخصيات كانت تصنف سابقا ضمن خانة «الإرهاب» أصبحت اليوم شريكة للولايات المتحدة، ومن بينها الرئيس السوري أحمد الشرع.

في هذا السياق، تستبعد أجندات نشر الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان، لتحل محلها فرص الأعمال والاستثمار وبناء الشراكات الاقتصادية. وبعبارة أخرى، ستتعامل الولايات المتحدة مع قادة المنطقة «كما هم»، متجهة نحو تحالفات براغماتية تقوم على المصالح الاقتصادية المتبادلة، لا على القيم. لكن هل تصح الافتراضات التي بنيت عليها هذه الاستراتيجية؟

لا شك أن الاستقلال الأمريكي في الطاقة واقع قائم، غير أن هناك عاملا لا ينبغي لواشنطن التقليل من شأنه، وهو أن صيغة «أوبك بلس» ما زالت العامل الرئيسي في تحديد أسعار النفط عالميا. وهذه حقيقة لا يمكن تجاهلها، مهما ترددت شعارات مثل «احفروا بلا توقف». فضلا عن ذلك، فإن تراجع الدور الأمريكي في الشرق الأوسط قد يفتح فراغا استراتيجيا يمكن أن تملأه الصين أو روسيا.

وتذهب الوثيقة إلى حد الادعاء «بـالقضاء التام» على قدرات إيران في تخصيب اليورانيوم، غير أن التساؤل مشروع عما إذا كانت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية تشارك هذا التفاؤل. كما لا تتضمن الاستراتيجية أي إشارة إلى مسار دبلوماسي محتمل في هذا الملف.

أما الحديث عن اقتراب تسوية الصراعات الإقليمية، فيبدو مفرطا في التفاؤل، إن لم يكن أقرب إلى التمني. ففي غزة، لم تنزَع أسلحة حركة حماس، ولا تزال المرحلتان الثانية والثالثة من اتفاق وقف إطلاق النار الذي طرحه ترامب محفوفتين بالغموض، لا سيما أن القضايا الجوهرية ـ وعلى رأسها حقوق الفلسطينيين وإقامة دولتهم ـ لم تعالج بوضوح، لا في الخطة ولا في قرار الأمم المتحدة المرافق لها. وينسحب ذلك أيضا على مستقبل «اتفاقات أبراهام»، حيث لا يزال انضمام السعودية معلقا للسبب ذاته.

وفي لبنان، لا يزال حزب الله يقاوم أي مسعى لنزع سلاحه، حتى إن مسؤولين أمريكيين بارزين، مثل المبعوث توم باراك، يشككون في قابلية هذه الاستراتيجية للتطبيق. ويبدو أن مصطلح «نزع السلاح» آخذ في التراجع لصالح مفهوم «الاحتواء».

أما الرهان على استقرار سوريا و«عودتها إلى مكانها الطبيعي» في الإقليم، فيبدو ـ هو الآخرـ متفائلا إلى حد بعيد، متجاهلا تعقيدات مرحلة ما بعد الأسد، واحتمالات الصدام المباشر بين إسرائيل وتركيا، فضلا عن بقاء المسألة الكردية دون حل.

وفيما يخص اليمن وجماعة الحوثيين، يجدر بواشنطن أن تتذكر أن اختفاء الملف من عناوين الأخبار لا يعود إلى هزيمة الجماعة، بل إلى تفضيل الولايات المتحدة التوصل إلى وقف لإطلاق النار.

وتكاد إسرائيل لا تذكر في الوثيقة إلا إشارة عابرة إلى ضرورة «ضمان أمنها»، دون أي تأكيد تقليدي على الالتزام المطلق بأمن الدولة العبرية، أو حديث عن «القيم المشتركة»، أو توصيفها بأنها «الديمقراطية الوحيدة في المنطقة».

والانطباع العام، في ضوء ذلك، هو وجود فجوة آخذة في الاتساع بين الاستراتيجية الأمريكية المعلنة والواقع الذي تقوم عليه، فالمعطيات الميدانية تسرد قصة مختلفة تماما. فهل نحن أمام حالة جديدة من سوء قراءة واشنطن للشرق الأوسط؟

تهدف الاستراتيجية إلى خفض تاريخي في الكلفة السياسية والمالية التي تتحملها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بالتوازي مع السعي إلى اقتناص فرص استثمارية كبرى في الخليج، وإعادة إعمار المناطق المدمرة، بما فيها غزة وسوريا. وهي أهداف تبدو نبيلة من حيث المبدأ، غير أن قابليتها للتحقق تبقى مرهونة بقدرة المنطقة على احتواء صراعاتها، وهو افتراض لا يمكن التسليم به بسهولة.

ـ ماركو كارنيليوس دبلوماسي إيطالي تولى منصب المبعوث الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط، والمبعوث الخاص إلى سوريا، وكان حتى نوفمبر 2017 سفير إيطاليا لدى العراق.

ـ الترجمة عن موقع ميدل إيست آي