«وما كفر سليمان»
«وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا: تجليات المعنى ودلالات الخطاب»: هذا عنوان كتاب للأكاديمي والباحث بجامعة نزوى الدكتور سليمان الحسيني، منشور عن مكتبة مسقط سنة 2022، وقد قمت بإعادة قراءته قبل أيام لأن موضوعه غاية في الأهمية لنا نحن المشتغلين في المجالات النفسية وخصوصًا الطب النفسي؛ فالعديد من الناس في مجتمعنا لا يوافقون على أن الأعراض النفسية التي يعانون منها أو يعاني منها أقرباؤهم هي نتيجة أمراض نفسية؛ بل يرونها نتيجة للحسد والعين والسحر والجن، وكلما حاولت أن تقنعهم أن مثل هذه الأمراض دُرسَت دراسة علمية وصُنِّفَت واكتُشِف لبعضها علاجات ناجعة ويبذل الباحثون في علوم الأعصاب جهودا مضنية في البحث عن أسبابها وعن آلية ظهورها، يُظهرون لك ما يعتبرونه أدلة على أن هذه الأعراض ليست أمراضًا نفسية، وهذه الأدلة بعضها واضح الضعف ويعتمد على الموروث الثقافي في المجتمع، وبعضها يتحدر من طرق الطب التقليدي القديمة التي عفا عليها الزمن، ولكنّ دليلهم الأقوى في رأيهم هو أن الحسد والعين والسحر والجن مذكورة في القرآن والسنة النبوية ولذا لا يمكن بحال من الأحوال تركها واستبدالها بأفكار «دخيلة» وإن أثبتها العلم الحديث.
وتشمل الأعراض النفسية التي أعنيها ويراها البعض دلالة على الإصابة بالحسد والعين والسحر والجن، الهلاوسَ السمعية التي يسمعها بعض المرضى وفيها يسمعون أصواتًا أو كلامًا بين أشخاص يتكلمون عنهم أو يكلمونهم؛ وفقدانَ بعض المرضى بصيرتهم حول المرض وفقدان اتصالهم بالواقع، فهؤلاء المرضى لا يوافقون أن ثمة خللا فيهم وتراهم يتصرفون من غير أن يدركوا أنهم غير طبيعيين مع وضوح اعتلالهم لمن حولهم؛ وأوهامَ الاضطهاد والعظمة والأوهام الأخرى التي يقتنع بها المريض اقتناعًا تامًا مع أن الدليل المنطقي والعقلاني يقول بعكس هذه الأوهام؛ والأعراض التفارقية والتي فيها ينفصل المريض عن ذاكرته أو هويته أو يُصاب بأعراض عصبية مع عدم وجود مرض عصبي قابل للتشخيص فتراه يسقط مغشيًّا عليه مع عدم وجود علة في الدماغ أو تنتابه تشنجات مع عدم وجود صرع؛ والأعراض التخشّبية التي فيها تتيبس عضلات الجسم فلا يستطيع المريض أن يتحرك من فراشه وقد لا يمكنه حتى الأكل والشرب؛ والأعراضَ النفس-جسمية التي فيها يعاني المريض من أعراض جسمية لكنها حين الاستقصاء الدقيق والفحوصات المختلفة الملائمة لا تُشكِّل ما يمكن أن يكون مرضًا عضويًّا بل تتجمع الأدلة على أن سببها نفسي.
وفي كتاب «وما كفر سليمان» يناقش الباحث موضوعات الحسد والعين والسحر والجن ودلالات معانيها في القرآن والسنة النبوية، ويرى أن ما يدور في المجتمع عن هذه المواضيع وما يرد في بعض المؤلفات الإسلامية لا يقول الحقيقة بل «ويتعارض مع الفهم الصحيح لآيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية التي ورد فيها ذكر هذه الموضوعات»، ويتعارض مع تفسيرها وشرحها في عدد من كتب التفسير، ويراها تنحى منحى الخرافة والأسطورة؛ بل إنه يصل إلى نتيجة أن هذه المواضيع التي شاعت في مجتمعاتنا أدخلتْها في الخرافة والأساطير، وحرمتها من التفكير في الظواهر النفسية والطبيعية تفكيرًا علميًّا وعقلانيًّا، وأشاعت فيها ثقافة سلبية أورثت الناسَ الخوفَ والأوهام؛ ففي القسم الذي يخصّصه الكتاب لمناقشة السحر مثلًا يصل الكاتب إلى أن القرآن الكريم لم يقل أن السحر طاقة خارقة فيها يستطيع بعض الناس أن يُسخِّروا الجن في الإضرار بالأبدان والممتلكات، ولم يقل كذلك أن الساحر يستطيع أن يصيب الآخرين بالأمراض، ولا أن «للسحر علاجًا ومعالجين»، ويصل الكاتب في القسم الذي يخصصه لمناقشة الجن، فيما يصل، إلى أن القرآن لم يقل أن الجن يصيبون الإنس بالمضرة الجسمية أو العقلية أو النفسية، فلا يلزم بالتالي التصديق بتأثير الجن على الإنس لأنه لا يأتي من مصدر موثوق قطعي اليقين.
هناك العديد من الكتب العربية التي ناقشت موضوعات الحسد والعين والسحر والجن وهي مفيدة لا شك في تنقية المجتمع من أوطار الأوهام والشعوذة والتفكير الخرافي، ولكن ما يميّز كتاب «وما كفر سليمان» أنه مكتوب من قبل شخص ينتمي لمجتمعنا ويعرف ما وصل إليه البعض في مجتمعنا من الإتجار بالدجل والشعوذة تحت مسميات ويافطات دينية مستغلين جهل الناس وحاجتهم إلى علاج لأدوائهم ومتكئين على التفكير الخرافي المنتشر في العقول، هذا التفكير ذاته الذي يتيح الآن المجال لمجموعة جديدة من تجار الوهم والمشعوذين الذين يستغلون العلوم الكاذبة في استجلاب الناس واستلاب عقولهم وأموالهم.
