هل هناك هجرة للكفاءات من القطاع العام إلى الخاص؟

20 أبريل 2024
20 أبريل 2024

في هذا المقال لا نقصد بهجرة العقول أو الأدمغة (Brain Drain) والتي عادة تكون من دولة إلى أخرى، وإنما نعني إن جازت التسمية بهجرة أو انتقال الكفاءات العمانية التخصصية أو الوظائف التي يطلق عليها الإشرافية أو الهيكلية من القطاع العام إلى القطاع الخاص، كما أن هجرة العقول أو الكفاءات تختلف من دولة إلى أخرى، وليس لها علاقة بتقدم الدولة أو كونها نامية أو فقيرة، فحتى اليوم تعاني المملكة المتحدة من نقص في الكفاءات الفنية التخصصية الماهرة، وأيضا من الكفاءات في قطاع التمريض، حيث تقوم باستقطاب ذلك النقص من الدول الأخرى، كما لا توجد قاعدة أو نمط معين يمكن تطبيقه للحد من هجرة الكفاءات سواءً داخل مؤسسات الدولة أو خارجها. ولا يوجد تعريف محدد لمعنى «الكفاءة» في الوظيفة، ولكن بشكل عام الكفاءة تحتاج لمجموعة من المعارف والمهارات والقدرات التي يتميز بها الموظف عن غيره، وتؤدي لتحقيقه إنجازات استثنائية، وقد تتولد تلك المعارف والقدرات من استمرار الدراسة العلمية والخبرات المتراكمة. وتتعدد الأسباب لهجرة وانتقال الكفاءات، ولعل الجانب المالي هو السبب الرئيسي، وأيضًا بيئة العمل، ونمط الحياة، ولكن في المقابل هناك بعض من الدراسات تشير إلى أن الجانب المالي ليس سببًا للخروج، أو الاستقالة من العمل. عليه فيجب معرفة جميع الجوانب المحيطة ببيئة العمل، والمحفزات التي من الممكن استخدامها في استبقاء الموظفين، فعندما يشعر الموظف بالعدالة الوظيفية وبأن حقه في التقييم السنوي لم يتم المساس به سوف يجتهد في رفع إنتاجيته وإبداعه في العمل، ولكن إذا أحس الموظف أيا كانت درجته أو وظيفته بأنه لا يوجد نوع من العدالة، أو البيئة المحفزة للعمل بين الموظفين فقد يلجأ للبحث عن أماكن أخرى للعمل سواءً التنقل بين مؤسسات القطاع الحكومي، أو البحث عن وظيفة بالقطاع الخاص، ومثالًا لذلك: فعند تم تطبيق نظام الإجادة الفردية بمؤسسات الحكومة وبالرغم من دخولها العام الثالث، إلا أن هناك تذمرًا من طريقة إدارة هذه المنظومة والتي كانت أملًا نحو تحقيق العدالة في التقييم الوظيفي لجميع مستويات العمل وحتى الوصول للوظائف الإشرافية والهيكلية، إلا أن ذلك لم يتحقق بعد. عليه فإن، الكفاءات غالبًا تتصف بالندرة وليس سهلًا الحصول عليها بشكل سريع، ومن تلك الوظائف: الأطباء بكافة التخصصات، وأساتذة الجامعات، والكفاءات الفنية التي تتعامل مع الأجهزة الفنية التي تحتاج إلى المهارات التخصصية الدقيقة، ويمكن أن يدرج ضمن الكفاءات أيضًا المدرسون ذوو الخبرات التعليمية العالية، ومديرو المدارس الذين يشهد لهم الميدان التعليمي بالإبداع في الإدارة المدرسية، وكبار المهندسين والصيادلة وخبراء المال والاقتصاد والقانون، والقائمة قد تطول ولكن المغزى بأن مثل هذه الوظائف ممكن أن تندرج ضمن فئة الكفاءات. في الجانب الآخر فإن المتعارف عليه أن الوظائف ومنها على سبيل المثال وظيفة مدير، وأيضًا وظيفة مدير عام -وهذا ليس تقصيرًا في تلك الوظائف- قد لا ينطبق توصيفها في سلم قائمة الكفاءات الوظيفية وإن تقلدت مناصب هيكلية أو إشرافية، كما أن التدرج الوظيفي للوظائف التي أشرنا إليها فإنها تختلف كليًا عن الوظائف الهيكيلة من حيث معايير الترقية، والبحث العلمي والانتساب لمؤسسات مهنية، أيضًا في حال الإعلان عن وظيفة «مدير عام» أو وظيفة «مدير» فإنه باستطاعة الكثيرين التقدم لمثل هذه الوظائف، ولكن في المقابل في حال الإعلان عن وظائف: أستاذ مشارك أو استشاري أو كبير المحاسبين أو الاقتصاديين، فسوف نجد شحًا في المتقدمين، وهذا ما أكده أحد مسؤولي الجامعات الخاصة عند الإعلان عن وظائف أكاديمية فأشار إلى أن هناك عددا قليلا من المتقدمين لها، مع أن الامتيازات المالية للوظائف المعروضة كانت تتساوى رواتبها مع رواتب الوظائف النظيرة بالجامعات الحكومية. الشيء الآخر فإن إحصاءات التعمين لوظائف الأكاديميين والأطباء في المؤسسات الحكومية قد تكون بعضها لا يتجاوز 50%، ولكن هناك توطينًا لأغلب الوظائف الإشرافية والهيكلية بالمؤسسات الحكومية. إضافة إلى ذلك فإن انتقال الكفاءات الأكاديمية إلى مؤسسات التعليم العالي الخاصة، وأيضًا الكفاءات الطبية العمانية للعمل في المستشفيات الخاصة هو جدير بالاهتمام ويجب العمل على تشجيعه، لأنه من غير المتوقع قيام الجامعات والكليات الخاصة بالتوجه نحو ابتعاث طلاب للدراسات العليا ليتم تعيينهم لاحقًا بتلك الجامعات، مع الأخذ في الاعتبار التكاليف المالية المترتبة، وعدم القدرة المالية لأغلب الكليات الخاصة على ابتعاث العمانيين ليدرسوا بالخارج لمدد طويلة، كما أن التشريعات الحالية التي صدرت، ومنها تعديلات أنظمة التقاعد من أحد أسبابها حث العمل بالقطاع الخاص سواءً في الوظائف الإشرافية أو الهيكلية أو غيرها من الوظائف.‏إن التوجه نحو دراسة منح بدلات مالية لبعض فئات الوظائف الإشرافية والهيكلية -دون غيرها- بهدف استبقائها (Staff Retention) من أجل الاستفادة من خبرتها، والحد من هجرتها للقطاع الخاص، فإن هذا التوجه له إيجابيات، ويعمل على زيادة الإنتاجية، وتحقيق أهداف المؤسسات الحكومية، إلا أن استخدام الجانب المالي قد لا ينجح دائمًا. ونشير هنا إلى ما قامت به الحكومة خلال فترة من الزمن بمنح مكافآت مالية لفئات محددة من موظفي الدولة -تعديل وضع- إن جاز التعبير؛ رغبة منها في استبقائهم لفترات أطول والاستفادة من خبراتهم، ولكن بالنظر إلى مؤشرات الإجادة المؤسسية، وأغلب مؤشرات التنافسية لبعض القطاعات فإن جودة الخدمات المقدمة للمستفيدين لم تصل للمستوى المستهدف خلال الفترات الماضية والحالية. ومما يدل على ذلك زيادة أعداد المراجعين في أغلب قطاعات الوزارات الخدمية، وتأخر إنجاز المعاملات مع ضعف في استخدام التقنيات الحديثة في بيئة الأعمال، وقلة تفعيل قنوات التواصل مع المستفيدين. وبالنظر إلى ما حدث في الأيام الأخيرة من التعاطي مع الأنواء المناخية -وليس تعميما على الجميع- يلاحظ أن الذين تقلدوا الوظائف الهيكلية والإشرافية على مختلف مستوياتهم لم يعطو انطباعًا -من المجتمع والذي هو من يقيم عملهم- بتمكنهم من اتخاذ القرارات المناسبة في التوقيت المناسب وقت الأزمات، الأمر الذي أدى إلى فقد فلذات الأكباد وفي الممتلكات. وبالتالي هذا أيضًا يفقد تلك الوظائف مقومات تصنيفها في قائمة «الكفاءات». عليه فإن بعضًا من تلك الوظائف والتي هي هيكلية أعطت ضعفًا في الجانب التخطيطي، والعمل بروح الفريق الواحد، ويمكن القول بأنها تمارس الإدارة القديمة في العمل، وليست قيادية كما يفترض عمليًا ونظريًا أن تكون. كما أن أحد التوجهات الاستراتيجية في «رؤية عمان 2040» هو إيجاد سوق عمل جاذب للكفاءات من خلال استيعاب القدرات الوطنية من مخرجات النظام التعليمي، واستقطاب الكفاءات الفنية الماهرة من الخارج. وعليه فإن تشجيع الكفاءات من الوظائف الإشرافية والهيكيلة وإعطاءها حرية التنقل من القطاع العام إلى الخاص يعمل على سد الفجوة من حاجة القطاع الخاص لبعض القيادات وبالتالي يؤدي ذلك إلى تقليل الحاجة إلى استقطاب الكفاءات من الخارج، فالجميع يشاهد تعيينات لوظائف تخصصية في بعض الأحيان بمؤسسات القطاع الخاص من غير العمانيين، مع العلم بوجود كفاءات عمانية تستطيع تقلد تلك الوظائف. ‏إن دراسة تحسين الجوانب المالية لموظفي الدولة للوظائف الإشرافية أو الهيكلية، وغيرها من الوظائف التي قد تندرج ضمن قائمة الكفاءات كما أشرنا سابقا، توجه سليم ويدخل ضمن الرشاقة المالية والمؤسسية، وقد يساعد على استبقائهم لفترات أطول، ولكن لعله من المناسب جدًا وضع ضوابط ومعايير ذات شفافية لتعريف «الكفاءات» بحيث لا تكون حكرًا على الوظائف الهيكلية أو الإشرافية. فالكفاءة قد تشمل: المعلم المبدع في عمله، والمهندس الذي يدير مشروعات هندسية، والطبيب الماهر، والأستاذ الجامعي الذي يتميز في سلم الترقي العلمي، والصحفي الذي يتألق في العمل الإعلامي، والوظائف ذات التخصصات التي تحتاج لمعارف وقدرات غير تقليدية والتي في حال عدم الاهتمام بها سوف نفقد أحد ممكنات التنمية البشرية من الموهوبين والمبدعين الذين في نظري أنه آن الوقت للاهتمام بهم ماليًا أكثر من أي وظائف أخرى، لكي تمضي مسيرة التنمية المتجددة بكفاءة عالية.

د. حميد بن محمد البوسعيدي خبير بجامعة السلطان قابوس