هل تقود ابتكارات العلوم الحيوية الثورة التكنولوجية القادمة؟

16 أبريل 2024
16 أبريل 2024

أشار تقرير عام 2023م لمؤشر الابتكار العالمي إلى أن «اتجاهات الابتكار على مستوى العالم قد جاءت وسط بيئةٍ اقتصادية يكتنفها الكثير من عدم اليقين»، فقد شهد العام المنصرم الكثير من التوترات الجيوسياسية التي ألقت بظلالها على الاقتصاد والتجارة والعلوم والابتكار، ولم تقتصر هذه الآثار على الأقاليم التي حدثت فيها هذه التغييرات، ولكنها انعكست على الجميع بما فيها الاقتصادات الأكثر ابتكارا، وفرضت الركود وانخفاض الإنتاجية في العديد من القطاعات، ولكن تاريخ البشرية قد أثبت في كل مرة أن التباطؤ يعقبه نمو بقيادة الطفرات الابتكارية، وإذا عدنا للوراء سنوات قليلة، واستذكرنا جائحة كورونا وكيف استجمعت منظومات البحث العلمي والتطوير التكنولوجي والابتكار جهودها لإنتاج لقاحات الفيروس، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل أصبح العالم بحاجة إلى المزيد من ابتكارات العلوم الحيوية؟ وهل سيشهد العالم في قادم الأيام ثورة تكنولوجية بقيادة موجات ابتكارات التكنولوجيا الحيوية بصورة تضاهي «الطفرة الرقمية» التي نقلت الإنسان إلى أقصى اختراعات العلوم العميقة؟

في البدء دعونا نقترب من المشهد العلمي والابتكاري في تخصصات العلوم الحيوية، نجد أن البشرية تنظر إلى التكنولوجيا الحيوية بأملٍ كبير، فقد علمتنا الجائحة أهمية التعاون العلمي والبحثي من أجل إنقاذ الحياة على هذا الكوكب، لم تكن الجائحة سوى وقفة صادقة لإدراك أن العالم ليس بحاجة للاختراعات الرائعة علميا ولكنها غير مجدية اقتصاديا ولا تمس حياة البشر واحتياجاتهم الأساسية، فالابتكارات في مجالات مُجرَّدة ونظرية لم تجد نفعا في الوقت الذي كان فيه الملايين من المعوزين يواجهون احتمالات الموت جوعا بعد أن أجبرتهم الإجراءات الاحترازية للوباء للبقاء في منازلهم دون عمل، وهذا يضعنا أمام التعقيدات والقوى الدافعة للابتكار التي يجب معالجتها عبر إدارة الأولويات، وهل يجب على البشرية ترجيح مسار مشترك للأنشطة البحثية والابتكارية الموجهة للاحتياجات الإنسانية البحتة.

واستنادا إلى قراءة تحديات فترة جائحة كورونا، فإن الإنسانية كانت تكابد أهم وأقدم التحديات؛ وهما الوصول إلى الماء والغذاء بشكل كاف، والحصول على العلاجات واللقاحات الوقائية، والتكنولوجيا الحيوية هي مفتاح الحل، وعلى مر تاريخ الإنسان على هذه الأرض اعتمد إنتاج الغذاء -كما نعرفه بشكله المعتاد- بصورة كاملة على مكونات الأرض من تربة وبذور ومياه وحيوانات، وعلى الطقس والأيدي العاملة، والممارسات الزراعية المتراكمة، قد أحدثت الكثير من الآثار السلبية مثل استنزاف الموارد الطبيعية والتلوث وغيرها، ولكن المبتكرين في التكنولوجيا الحيوية تمكنوا لأول مرة في التاريخ من إنتاج البروتين دون هدر الموارد الطبيعية، مما يعني أننا ندخل الآن عصر الإنتاج الغذائي المستدام الذي يحرر كوكبنا من أعباء الزراعة، إذ أعلنت شركة الأغذية الشمسية Solar Foods وهي شركة ابتكارية فنلندية ناشئة في التكنولوجيا الحيوية الغذائية أنها قد طورت ابتكارا يسمح بإنتاج البروتين الغني بالمغذيات المفيدة باستخدام الكهرباء والهواء، وطبقا لشعارها اللفظي الذي يقول: «نحن ننتج الغذاء من الهواء»، فهي تعد طفرة ابتكارية غير مسبوقة لإحداث ثورة مستدامة في إنتاج الغذاء، وها قد أصبح لدى البشرية المعرفة اللازمة للتغلب على التحديات العميقة لأنظمة الإنتاج المحلي والعلمي والتي تعاني من المخاطر المتعددة على طول سلسلة القيمة وسلاسل الإمداد، إذن كيف تعمل تكنولوجيا الأغذية الشمسية؟

تأخذ عملية الإنتاج تقنيات الإكثار الميكروسكوبي للأحياء الدقيقة، حيث يبدأ خط الإنتاج باختيار ميكروب من الطبيعة، واستزراعه بنفس العملية الحيوية التي تتم فيها زراعة النباتات، ولكن استزراع الميكروبات يكون بتوفير الأكسجين والطاقة الكهربائية ودعم عملية التخمير لإنتاج البروتين، وتعد هذه العملية أكثر كفاءة في إنتاج البروتين بمقدار 20 مرة من عملية التمثيل الضوئي في النبات، و200 مرة من إنتاج اللحوم، وتتمحور فكرة الابتكار في كون أن المادة التي يبدأ منها خط الإنتاج ليس نباتًا أو حيوانًا. وبدلًا من ذلك، فهو ميكروب غير معدل ويتم إكثاره بطريقة غير مكلفة لإنتاج «سولين» وهو عبارة عن بروتين مغذ وصحي، وأطلقت عليه الشركة هذا الاسم للإشارة إلى أن إنتاجه لا يأتي من الأرض وإنما من الطاقة الشمسية Solar Energy، ومن الناحية التطبيقية فإن بروتين سولين يمكن أن يكون مدخلا للكثير من الصناعات الغذائية، فمن حيث التركيبة العضوية هو يشبه إلى حد كبير تركيبة الصويا أو الطحالب المجففة، وتعمل الشركة في الوقت الراهن على استقطاب الطهاة المبتكرين لوضع استحداث وصفات عصرية لوجبات لذيذة من هذا البروتين المبتكر، مما يتيح للمستهلك تجربة مميزة وفريدة، وبما أن العمليات الحيوية الإنتاجية لا تحتاج إلى مساحات كبيرة من الأرض، ولا تتضمن التكاليف الكبيرة لتربية الحيوانات ورعايتها، ولا تؤثر على البيئة مثل الزراعة التقليدية التي أوجبت الكثير من حالات إزالة الغابات، والاستخدام المفرط للمبيدات الحشرية، والأسمدة، والمخصبات الزراعية، والمضادات الحيوية، والهرمونات ومختلف المواد الكيميائية التي أدت إلى تدهور التربة، وتلوث المياه، فإن ابتكار الأغذية الشمسية يمكن أن يخلق إمدادات غذائية لا حصر لها للإنسان في حالات الرخاء، وفي الحالات الاستثنائية.

والأمثلة كثيرة على ابتكارات التكنولوجيا الحيوية التي تتيح حلولا متكاملة للمشكلات العصرية على هذا الكوكب، وفي مقدمتها ملف الأمن الغذائي، والصحة، والبيئة، فمراكز البحوث العلمية المتقدمة أصبحت تضع جُلَّ اهتمامها في دعم التكنولوجيا الحيوية بالشكل ذاته الذي كانت فيه قطاعات تطوير النزاعات الحربية والسيارات والحاسوب تعمل خلال القرن الماضي، فالتطبيقات العملية لقطاع الصحة تعتمد الآن على أدوات وابتكارات علوم الأحياء الجزيئية، مثل الجينوم والعلاج بالخلايا والجينات، وبحسب تصريحات قادة الشركات الابتكارية الرائدة في صناعة العقاقير والمنتجات الدوائية والصيدلانية؛ ستوفر التطورات في مجال التكنولوجيا الحيوية الصناعية أجيالًا جديدة من الجزيئات التي لم يسبق لها مثيل في الطبيعة، بالإضافة إلى تعزيز عمليات طرح الأدوية التجريبية للتقييم السريري، وإتاحة طرق نظيفة ومستدامة للتصنيع بحيث تعتمد على مناهج البيولوجيا التركيبية.

ومع وجود كل هذه الفرص الاستراتيجية للاستثمار في التصنيع والإنتاج القائم على ابتكارات التكنولوجيا الحيوية، إلا أن القطاع لا يزال يواجه عدة عقبات بسبب قلة التركيز الاستراتيجي عليه، واستمرار تصاعد أولويات الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة والخوارزميات وغيرها من التقنيات المتقدمة للثورة الصناعية الرابعة، ففي حين أن العلوم الحيوية في حاجة ماسة إلى تقنية المعلومات وأدواته المساندة مثل البيانات الضخمة، والبرمجيات والمنصات السحابية، إلا أن التطوير التكنولوجي في عمق العلوم الحيوية يمكن أن تنتج عنه نسخة أخرى للثورة الصناعية القادمة، فالتقدم العلمي الموجه لتنمية قاعدة للتكنولوجيا الحيوية الصناعية يمكنه أن يسهم بشكل كبير في قيادة الاقتصاد الحيوي، وفي تعزيز مخزون المهارات الكلية لمجتمع الممارسات البحثة والابتكارية بشكل يسهم في تسريع بناء الشراكات الاستراتيجية، وتهيئة الفرص الاستثمارية والإنتاجية عبر تسويق مخرجات الابتكار، ونمو ريادة الأعمال العلمية.

وهذا يضع البشرية أمام منحنى تاريخي يستوجب سرعة اتخاذ قرار الدعم العاجل والواسع لقطاع التكنولوجيا الحيوية الحديثة، فعندما ظهر الجيل الأول من هذه التكنولوجيا في أواخر السبعينيات من القرن الماضي مع اكتشاف الحمض النووي المؤتلف، تم تطبيقها لأول مرة في قطاع الصحة، وانتظرت القطاعات الأخرى عقدا من الزمن حتى وصلت التقنيات الجزيئية إلى صناعاتها التحويلية في الزراعة والغذاء والبيئة، ورافق هذا التحول الكثير من الجدل العلمي والمجتمعي، فجميع ابتكارات التكنولوجيا الحيوية كانت تُصنف بأنها بمثابة هندسة وراثية، وأحد أشكال الهندسة الأيضية، إلا أن الجوانب الهندسية في الواقع كانت مجازية أكثر منها في الواقع، ولم تظهر أهمية التكنولوجيا الحيوية سوى مؤخرا حين نجح العلماء في إثراء قدرات العمليات الميكروبية الصناعية من خلال جلب جينات جديدة إلى المحفزات الحية، وتعديل جينوماتها لتناسب مع احتياجات التصنيع الحيوي لإنتاج الغذاء والأدوية والعقاقير والمستحضرات الأخرى والوقود الحيوي، وجميعها تمثل ركائز الاقتصاد الحيوي والدائري، ويعد ظهور البيولوجيا التركيبية في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين حدثا مفصليا غيّر تمامًا من قواعد لعبة إعادة توجيه الكائنات الحية الدقيقة كعوامل للتحولات الجذرية على المستوى الصناعي، ففي الثورة الصناعية الرابعة، نجحت الآلة في جلب الراحة والرفاهية لحياة الناس، وأتمتة المهام المعقدة، ولكنها لم تتضمن الاستدامة والأنسنة، وهذا يفتح الطريق أمام الثورة التكنولوجية القادمة التي من المؤكد سوف تسهم في نشوء التطورات العلمية المتسارعة في التكنولوجيا الحيوية التي تتمركز حول الإنسان، والاستدامة، ومرونة الأنظمة البيئية مع تكامل التكنولوجيا الرقمية والتكنولوجيا الحيوية، وظهور جيل ابتكارات الخلايا الذكية، والفضاءات المدمجة بين العالمين الافتراضي والمادي، وبلا شك فإن الاقتصادات التي سوف تتصدر في المستقبل تصنيفات مؤشرات الابتكار العالمية هي تلك التي تستثمر الآن في التكنولوجيا الحيوية.

د. جميلة الهنائية باحثة في سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار