عمان والإمارات .. حضارة واحدة ومصير مشترك

29 أبريل 2024
29 أبريل 2024

22-23 أبريل 2024م.. قام مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق - أعزّه الله - بـ«زيارة دولة» إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، وكان في استقباله صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة وكبار المسئولين. وتعد «زيارة الدولة» أعلى مستويات الزيارات الرسمية بين الدول، وتعبّر عن روح صداقة عالية، وفيها تبرم اتفاقيات المشاريع الضخمة والاستراتيجيات بعيدة المدى. وهذا ما جرى بين سلطنة عمان ودولة الإمارات العربية المتحدة، فقد انصبّت الزيارة على العمل لـ(تنفيذ مشاريع استثمارية مشتركة في قطاعات استراتيجية، وخاصة في قطاع الطاقة المتجددة والصناعات المرتبطة بها، وكذلك تدشين مشروع سكك الحديد لربط سلطنة عمان بشبكة قطارات الإمارات، والربط الكهربائي، وغيرها من المشاريع) [من كلمة جلالته]، وذلك بعد تعزيز العلاقات الأخوية بين الشعبين، فـ(العلاقات بين دولة الإمارات وسلطنة عمان علاقات تاريخية، ولها نسيج اجتماعي وثقافي خاص، يميزها الروابط العائلية الوثيقة، وحسن الجوار والعلاقات والتعاون والتكامل) [من كلمة سموه].

إن الحديث عن البلدين هو أولا حديث عن شعبين، وبالأحرى؛ شعب واحد تسري فيه الدماء نفسها، يدين بالإسلام ويتكلم العربية، وله تقاليد مشتركة. هذا الشعب.. منطلق من قَدَر واحد آتٍ من الزمن الحضاري الأول للمنطقة، ويتجه نحو مصير مشترك من الآمال والتحديات؛ لاسيما أن الخليج يشهد تغيرات على المستوى الجيوسياسي. في مقدمتها التغيرات الديمغرافية بسبب الهجرات إلى دولة، تستأثر سلطنة عمان والإمارات بنسبة عالية منها، بحيث يجعلهما على مفترق طرق بين الحفاظ على هُويتهما أو غلبة الثقافات الوافدة، وهي غلبة لا تقتصر على العادات والتقاليد.. بل قد تحدث مستقبلا تغيّرات في الشأن السياسي والديني والاجتماعي. بنظري؛ أن القيادتين في الدولتين مدركتان هذه التحديات، وهما قديرتان على معالجتها، بما يحقق معادلة النمو الاقتصادي والحفاظ على الهُوية، فالاستراتيجيات بعيدة المدى تضمن ذلك بموازنة حكيمة دون أن إفراط أو تفريط.

أكثر من أربعين عاما.. يمر حوض الخليج بحروب واضطرابات، لكن القيادتين الرشيدتين -منذ تولي السلطان قابوس بن سعيد (ت:2020م) وسمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان (ت:2004م) طيّب الله ثراهما- استطاعا أن يجنبا بلديهما تلك العواصف المدمرة، وأن يعملا على بنائهما من الصفر تقريبا في البُنية الأساسية. وقد واصلت القيادتان من بعدهما النهج نفسه، وهذا ما يجعلنا مطمئنين لمستقبل بلدينا وأبنائنا.

«شبه الجزيرة العمانية».. مصطلح في علم الآثار، معتمد في عُمان والإمارات معا، ويغطي مساحة تمتد في أرض شاسعة تحيط بها المياه من بحر العرب وبحر عُمان والخليج العربي. وتشكل سلسلة الحجر عمودها الفقري، التي تمتد على شكل قوس حجري ضخم، بطنه باتجاه البحر، وظهره باتجاه الصحراء.

هذا الامتداد الجغرافي.. وجدتُ من خلال دراسة آثاره أنه يكوّن حضارة واحدة؛ صنعت المصير المشترك بين عُمان والإمارات، فجذورنا الأولى تشكّلت متأثرة بتضاريس المنطقة وبيئتها الطبيعية، بشموخ الجبال ورحابة البحار. ولكي أفهم النشأة الأولى لإنسانها، والذي نحن سلالة منه، كان عليّ أن أقرأ جغرافيتها، فقمت في شتاء 2019-2020 بتتبع شطريها الإماراتي والعماني، من مسندم حتى ظفار، فوقفت على أهم معالمها الحضارية؛ والتي تشكلت على جانبي سلسلة الحجر. بالإضافة إلى أن جبال السلسلة ذاتها تحوي قرى حضارية.. بل سُكنى الجبال كما أرى هي الأصل، ومنها انحدر الناس إلى السهول والأودية، وذلك لأن المنطقة فيما «قبل التاريخ» كانت مطيرة، مما ألجأت الناس إلى اللوذ بالجبال ليتمكنوا من العيش.

أثناء زيارتي الإمارات التقيت بمسئولين عن الآثار، وبعض المتخصصين في علم الآثار؛ وبعضهم اشتغل بالتنقيب في المواقع الأثرية، وكانت فرصة لزيارة بعض المواقع، كما أنهم زودوني بالعديد من الدراسات المنشورة عن الآثار المكتشفة، وزرت بعض المتاحف في الشارقة ودبي وأبوظبي، فاطلعت من خلالها على فوائد جليلة، أثبتت رؤيتي للمنطقة بأنها تشكل حضارة واحدة، لها عناصر ثقافية مشتركة؛ في الاجتماع والتاريخ والدين والمعتقدات والأساطير والاقتصاد والسياسة، ولذلك؛ نجد علماء الآثار عندما يكتشفون موقعًا أثريًا في عُمان أو الإمارات يعممون نتائجه على أرضيهما لاشتراكهما في هذه العناصر، وقد أعقبت تلك الزيارة زيارة علمية أخرى عام 2022م أكدت لي ما ذهبت إليه من قبل. وهنا أغتنم الفرصة فأشكر مَن رتب لنا برنامجَي الزيارتين، والمسئولين في مؤسسات الآثار والمتاحف، على ما قدموه لنا، فقد أحاطونا؛ خُلُقًا وكرمًا وعلمًا.

واليوم.. بناءً على الوحدة الحضارية التي كشف عنها علم الآثار؛ أصبح بالإمكان أن نقرأ العديد من الظواهر الاجتماعية بالمنطقة، ليست التي تشكلت في القدم فحسب، وإنما كذلك رصد المعاصر منها، سواءً الاجتماعية أم السياسية أم الاقتصادية.. بل حتى الكشف عن المزاج النفسي للشعبين.

هناك الكثير من المشتركات الاجتماعية بين عمان والإمارات، وهذا يتجلى من الخارطة القبلية، فلا يكاد تنحصر قبيلة في إحداهما، ومن خلال التوزع العائلي؛ فكثير من العوائل بعضها يسكن عمان والآخر يسكن الإمارات.. بل من البيت الواحد؛ بعض الإخوة هنا وبعضهم هناك. وهذا المشترك الاجتماعي ينطبق كذلك على الجانب الاقتصادي، حيث توجد في الدولتين شركات ومؤسسات اقتصادية مشتركة، منها عائلية، ولعل هذا مما يمكن أن يُبنى عليه الاستثمار الاقتصادي بينهما، فلا أحد يشعر بأنه غريب، ولا أنه يعمل في بيئة غير بيئته.

هذه الظواهر الاجتماعية.. ثمرة «أسس نفسية» نمت عبر حقب متوالية، ولنأخذ مثالا عليها التسامح.. فالبلَدان معروفان به، ليس فيما بينهم فحسب، وإنما أيضا مع غيرهم؛ بما في ذلك النازلون بأرضهم، وعندما يُذكر التسامح يحضر الدين، فلم يسجل بهما في العهد الإسلامي عنف أو حروب بدوافع مذهبية، وما جرى من ذلك فهو في الجانب السياسي، ولم يتعدَّ التنافس على السلطة. كما أنه لم يحصل فيها تعصب ديني؛ رغم أنها منذ القدم ينزلها أناس من أديان مختلفة كالهندوسية والمسيحية واليهودية، ويقيمون فيها دهرا، خاصة للتجارة، وتسهيل الخدمات ما بين داخل البلدين وخارجهما.

لقد دعتني هذه الظاهرة أن أبحر في التاريخ لمعرفة عمق أبعادها، فوجدت أن أهالي المنطقة مشتركون في اختيار دينهم، فعلى مدى ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد كانت المعتقدات الدينية مشتركة في «شبه الجزيرة العمانية»، والاختلاف بينها لا يعدو أن يكون «اختلافا مذهبيا» في الدين المُتَّبع. وعندما يحصل تحول ديني فهو يشمل المنطقة عموما، من ذلك؛ اعتناقهم النصرانية النسطورية في حوالي القرن الثالث الميلادي، حيث أخذت تنتشر من الشمال إلى الجنوب دون أن يسجل التاريخ نزاعا بينهم، وعندما جاء الإسلام وبَعث النبي محمد إليهم رسوله ليسلموا، تشاوروا فيما بينهم، وقرروا أن يدخلوا الإسلام.

وهناك ظاهرة أخرى.. وهي أن الفعل الحضاري؛ سواء أكان ثقافيا أم اقتصاديا أم اجتماعيا، لا ينحصر في نظام سياسي واحد، فعندما نجد فعلًا حضاريا -مثلا- في مليحة بالشارقة، أو الدور بأم القوين، أو ساروق الحديد بدبي، أو البليد وخور روري بظفار، أو كدم وبَهلا بداخلية عمان، أو سمد الشأن والمُيّسر بشرقية عمان، نجد أثره الحضاري ممتدًا إلى باقي الإقليم، مع تعدد الأنظمة السياسية فيه.

وبعد؛ فلأجل الاستفادة من هذا الثراء الحضاري.. أقترح أن تتوجه العناية السامية في الدولتين إلى إنشاء مركز مشترك، للكشف عن حضارتنا التي تحتوي على عناصر ثقافية قد تؤهلها أن تكون في مصاف الحضارات القديمة كالسومرية والأكدية، وفي هذا تمكّنٌ علمي وعمقٌ ثقافي على مستوى عالمي، كما أنه مجال خصبٌ للسياحة الآثارية والحضارية.