هل تجعل تطبيقات الترجمة تعلم اللغات ماضيا مهجورا؟
في أوروبا، يدرس 9 من كل 10 طلاب لغة أجنبية. في الولايات المتحدة، 5 طلاب فقط. بين 1997 و2008، انخفض عدد المدارس المتوسطة الأمريكية التي تدرِّس اللغات الأجنبية من 75% إلى 58%. فما بين 2009 و2013، أغلقت كلية أمريكية واحدة برنامجها الخاص بتدريس اللغات الأجنبية، وفي ما بين 2013 و2017 فعلت ذلك 651 كلية.
للوهلة الأولى، تبدو هذه الإحصائيات مأساة. لكنني أشرع في تبني رأي غريب يرى أنها ليست كذلك. والتكنولوجيا هي التي تغير رأيي.
قبل الكريسماس على سبيل المثال تعرفت على تشات جي بي تي من خلال شخص جعله يكتب افتتاحية في موضوع معين بـ«أسلوبي». وهذا وحده مثير. لكنه طولب بعد ذلك بترجمة تلك الافتتاحية إلى الروسية. ففعل على الفور، ويمكنني القول، وأنا حجة في ما أقول، إن الترجمة الروسية ـ وإن لم تكن بارعة ـ كانت قابلة تماما للاستخدام.
وماذا عن اللغة المنطوقة؟ كنت في بلجيكا قبل وقت غير بعيد، وشاهدت سائحين كثرا من بلاد مختلفة يستعملون تطبيقات ترجمة الحديث الفورية لتحويل لغاتهم إلى الإنجليزية أو الفرنسية. وبوسع التطبيقات الأحدث أن تعيد إنتاج نبرة صوت المتحدث نفسها، وقد أعلن نموذج آترانسليت الرائد أنه تم تحميل تطبيقه الخاص بالترجمة مائتي مليون مرة حتى الآن.
لا أعتقد أن هذه الأدوات سوف تجعل تعلم اللغات يوما ما عملا بائدا تماما. فليس من الممكن لبرنامج أن ينتج محادثة حقيقية فيها الخصال الدقيقة للحديث العفوي، أو أن ذلك ـ على الأقل ـ غير ممكن بما ينقل الإنسانية كاملة. وانظروا مثلا إلى قولي إنني «غدا أبدأ نظامي الغذائي». إنه لأمر دقيق للغاية لكن تأملوا حذفي من هذه الكلمات كلمة «سوف» أو «سـ»، فهذا الحذف ينقل دراما إضافية، تتمثل في الإيحاء بأنني ربما أكون قد أرجأت النظام الغذائي لبعض الوقت، وأنني في الغد سوف آخذ نفسا عميقا ثم أشرع فيه. الترجمة النمطية سوف تعمد ببساطة إلى إضافة هذه الـ(سوف) إلى بداية نظامي الغذائي، وذلك وإن نقل الفرضية الأساسية لكنه لا ينقل النبرة أو المعنى الضمني الذي رميت إليه. هذا ولم أقل شيئا بعد عن الخلط الحواري النمطي في العامية الذي يستحيل على تطبيق ترجمته.
لكن حتى في حال عجز التكنولوجيا عن إجراء محادثة أصيلة دقيقة ـ الآن على أقل تقدير ـ فإنها تقلِّل أغلب الاحتياج إلى تعلم لغات أجنبية لأغراض أكثر نفعية. فسوف تبطل الآن سيناريوهات كتب اللغات المدرسية القديمة لأولئك الناس الذين يخدمون في الغرف الفندقية أو الذين يطلبون الوجبات بلغة بلد يزورونه ـ «تحياتي، من فضلك أحضر لي كأس ليمونادة مع سندويتش». والغرض العملي هو السبب الذي يجعل أغلب الناس يرغبون في تعلم لغة جديدة، ولو بمستوى كلمات وعبارات التحيات إثباتا للاحترام والرغبة في المشاركة.
يذهب العالم المعرفي دوجلاس هوفستادرـ في مقالة ملتوية نشرها أخيرا في ذي أطلنطيك ـ إلى أن محاولاته (السيزيفية) الدؤوب ـ والممتعة أيضا ـ لإجادة لغات أجنبية (من شبه إتقان الإيطالية إلى المستوى المتوسط في لغة المندرين) إنما هي تعبير عن إنسانيته، وهو تعبير سوف تحرم التكنولوجيا الجديدة الناس منه. ومع أنني دائم الإجلال لعقل هوفستادر الهائل، فقد قضيت حياتي أتعلم اللغات بدرجات متفاوتة، ولم أر قط أن نجاحاتي الجزئية في ذلك تعبيرا عن روحي. في المرة الأولى التي قرأت فيها رواية بلغة أجنبية، كنت أجهل قرابة كلمتين في الفقرة. كان ذلك طريفا، لكنني لا أعتقد أن قراءتي الوجيزة للنص هي «نسختي الشخصية» من (أحدب نوتردام). وإنما علمت أنني بحاجة إلى مزيد من العمل.
وليس هذا العمل ممتعا لكل الناس. فالاستمتاع بالتطور البطيء في معرفة كيفية عمل اللغات غواية فردية مثلما قال الكاتب جريم وود وليست صفة إنسانية عامة. فقد يندهش البعض مثلا حين يعلمون أن كثيرا من علماء اللغة الممتازين ليسوا ما أسميه بـ«الرؤوس اللغوية» التي ترغب في تعلم لغات جديدة لمحض الحصول على بهجة الاكتشاف أو الإنجاز. لقد أصبح المهووسون بتعلم اللغة يطلقون على أنفسهم مجتمع متعددي اللغات خلال العقدين الماضيين، وأنا منهم إلى حد ما. وبهذا فإنني أعلم كم هو صعب أن ندرك أن أغلب البشر بلداء الإحساس بهذه الرغبة.
إنني أفكر كيف كنت لأفجر محيطي وأنا صبي مغرم باللغات بوفرة اللغات الأجنبية في حي كوينز الذي أعيش فيه حاليا. ولكن هذه الوفرة بالنسبة لأبنائي شأن عادي من شؤون الحياة اليومية. وأفكر أيضا في الشخص المثقف ذي التعليم الجيد الذي قال لي بلطف إنه يتجاوز الكلمات الأجنبية في كتبي ما لم تكن بالفرنسية أو الأسبانية. (وبعد ذلك الحوار بدأت أقلل استعمالي لتلك الكلمات). وهو في هذا الصدد طبيعي وأنا الذي لا أخلو من غرابة.
أغلب البشر لا يهتمون كثيرا بكيفية قولهم ما يقولون، أو باللغات التي يقولونها بها، ولكنهم أكثر اهتماما بما يقولونه . وتعلُّم التعبير عما تريد قوله ـ بعيدا عن الأساسيات الأولية ـ بلغة أخرى أمر شاق. وقد يكون الأمر شاقا علينا نحن الناطقين بالإنجليزية بصفة خاصة لأن الحديث بالإنجليزية أيسر ـ بالمستوى اللائق على الأقل ـ في أماكن كثيرة. وأغنيات البوب الأمريكية تغنى بلغتنا ومن ثم فنادرا ما تكون لغة أجنبية مغرية بترجمتها (برغم أنني أستشعر حركة ضئيلة من هذا النوع تجاه الكورية بسبب أغنيات البوب الكورية).
متعددو اللغات يرون في اللغات الأجنبية قمم إفريست يتجاسرون على تسلقها ـ وهذه استعارة مأخوذة من مقالة هوفستادر، لكنها لأغلب الناس عوائق عليهم أن يلتفوا عليها. وبقدر افتتاني الذي سأبقى عليه دائما ـ في ضوء اهتماماتي المهنية والشخصية ـ بآلاف اللغات القائمة، أجد أن قصة برج بابل تقبض على مغزى ما. فلو كان في العالم لغة واحدة فقط، يصعب تخيل أي شخص يتمنى لو كانت هناك سبعة آلاف لغة مختلفة، بحيث لا يستطيع متكلم بإحداها أن يتواصل مع الآخرين. ولكن التكنولوجيا الجديدة تتجاوز بنا ذلك التحدي.
في النهاية، برغم الجهود المخلصة المثيرة للإعجاب التي يبذلها معلمو اللغات الأجنبية في عموم البلد، فإن أقل من واحد من كل مائة طالب أمريكي يصبح طلق اللسان في لغة تعلمها في المدرسة. وقد تغرس برامج الانغماس ـ إذا بدأت مبكرا ـ لغة أجنبية في عقل طفل. ولكن لا يوجد من هذه البرامج إلا 3600 فقط في قرابة مائة ألف مدرسة عامة في البلد كله. ووسط التحديات اللانهائية التي تواجه نظامنا التعليمي، ليس من الواضح مدى الانتشار الذي يمكن أن نتوقعه لهذه البرامج.
أعرف إن أي لغة أجنبية هي نافذة إلى طريقة جديدة في التعامل مع العالم. لكن بالرغم من أن هذه الحقيقة قد راجت كثيرا إلى حد ما، هل يمكننا حقا القول بأن المستوى المتواضع من الفرنسية أو الأسبانية الذي نناله نحن وزملاؤنا في فصول التعليم المدرسي يخول لنا حقا امتلاك هذه العدسة الجديدة على العالم وعلى حياتنا فيه؟ ولو أن أهدافنا أقل ضيقا وأكثر عملية ـ كأن نعرف مثلا الطريق إلى محطة الحافلات في روما ـ فالتكنولوجيا الآن تمكننا من ذلك بضغطة زر.
لأنني أحب محاولة تعلم اللغات ولا أفتقد قط الافتتان بتنويعاتها وتعقيداتها، فإنني أعمل بجد على أن أغمض عينيِّ عن هذا الواقع الجديد. فبوجود جهاز آيفون وتحميل تطبيق مناسب، لن تستمر اللغات الأجنبية ذلك الحاجز الذي دأبت على أن تكون إياه بالنسبة لأغلب الناس. لن يصبح تعلم لغة أجنبية لدرجة الإجادة أمرا بائدا. بل إنه سوف يستمر حاضرا على سبيل المثال لدى من ينتقلون فعليا إلى بلد جديد. وسيستمر مع الراغبين في الاشتباك مع الأدب أو الإعلام باللغة الأصلية، وأيضا مع من يجدون متعة في البراعة في شيفرات جديدة لمجرد أنها موجودة. بعبارة أخرى، سيصبح تعلم اللغات الأجنبية أقرب إلى صنعة لا تهم إلا عددا أصغر وأكثر التزاما من المتحمسين. وعلى غرابة هذا، فهو بطريقته الخاصة ضرب من التقدم.
