نهاية «باكس أميركانا»

29 ديسمبر 2025
ترجمة: بدر بن خميس الظّفري
29 ديسمبر 2025

في خطابٍ ألقاه أمام حزبه في 14 ديسمبر أثار المستشار الألماني فريدريش ميرتس عاصفة من الجدل بتصريحات غير مسبوقة في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية.

قال ميرتس: «أيها الأصدقاء إن عقود «باكس أمريكانا» قد انتهت إلى حدٍّ كبير بالنسبة لنا في أوروبا. وبالنسبة لنا في ألمانيا أيضاً لم تعد موجودة كما عرفناها من قبل. والحنين إلى الماضي لن يغيّر هذه الحقيقة. الأمريكيون اليوم يسعون إلى مصالحهم الخاصة بشدّة، وبطريقة لا هوادة فيها. ولا يمكن أن يكون الرد على ذلك إلا أننا أيضاً يجب أن نلاحق مصالحنا الخاصة. وأقول لكم: نحن هنا لسنا ضعفاء، ولسنا صغاراً».

لقد بات مفهوم «باكس أمريكانا»، وهو مصطلح لاتيني يقصد به النظام الأمني الذي قادته الولايات المتحدة، وشكّل أساس الشراكة الأميركية ـ الأوروبية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية موضع تشكيك علني.

في الواقع تجاوز ميرتس خَطاً لم يجرؤ سوى قلة من القادة الأوروبيين على الاقتراب منه منذ الحرب الباردة، وذلك تحت وطأة الصدمة التي أحدثتها وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأميركية التي صدرت في وقت سابق من شهر ديسمبر 2025.

فالوثيقة لم تعد تصنّف روسيا حتى بوصفها تهديداً، بل تصفها على أنها عامل في مساعي إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للتوصل إلى سلام في أوكرانيا، وهو هدف بات يُقدَّم الآن باعتباره مصلحة استراتيجية لواشنطن إلى جانب «استقرار العلاقات مع موسكو». ولزيادة وقع الصدمة تنص الوثيقة على أن «تصور وواقع توسع حلف شمال الأطلسي (ناتو) المستمر يجب أن يتوقف». في جملة واحدة تم التخلي بهدوء عن قرابة ثلاثة عقود من السردية الغربية التي أنكرت بجرأة أي صلة بين توسع الناتو شرقاً والحرب في أوكرانيا، وذلك على يد القوة القائدة داخل الحلف نفسه.

ليس مفاجئاً والحال هذه أن تُستقبل الوثيقة في أوروبا بقدر كبير من الذهول والقلق، لكن ما يصعب تبريره حقاً هو عنصر المفاجأة ذاته؛ فالوثيقة لم تفعل سوى تدوين ما ظل الرئيس ترامب يردده بلهجته الصريحة المعهودة طوال أكثر من عقد. بل إن النخب الأوروبية كانت قد تلقت إنذاراً مبكراً في فبراير الماضي حين أوفد ترامب نائبه جي دي فانس إلى مؤتمر ميونيخ للأمن ليبعث برسالة لا لبس فيها عمّا هو قادم.

وجاءت تصريحات ميرتس متسقة مع تصريحات مماثلة أطلقها كل من الأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته الذي ألقى خطاباً وصف بالكارثي في برلين، ورئيس أركان الجيش الفرنسي الجنرال فابيان ماندون، ورئيس اللجنة العسكرية للناتو الأميرال جوزيبي كافو دراغوني. بل إن دراغوني ذهب في مقابلة مع صحيفة فايننشال تايمز إلى حد الدعوة إلى شن «هجمات هجينة استباقية أو وقائية» ضد روسيا، أي استخدام أدوات غير تقليدية تجمع بين الضغط العسكري والاقتصادي والإعلامي.

يصعب تجاهل الانطباع القائل: إن هذا التهويل الجماعي يهدف إلى حشد الدعم الشعبي لخطة إعادة التسلح الأوروبية التي أُعلن عنها حديثاً وتبلغ قيمتها 800 مليار يورو، ويُروَّج لها على أنها ضرورية لسد الفراغ الذي تخلّفه إدارة أميركية تميل بشكل متزايد إلى الانكفاء في مواجهة تهديد روسي يجري تضخيمه إلى حد بعيد.

ويزداد هذا الخطاب إرباكاً حين يُنظر إليه في سياق صعود حزب البديل من أجل ألمانيا، وهو حزب يميني متطرف له ارتباطات أيديولوجية بالنازية في وقتٍ تُدفع فيه ألمانيا إلى إعادة تسلح واسعة النطاق. ومع ذلك يبدو أن هذا التناقض لا يشغل بال النخب الليبرالية الأوروبية التي لا تزال أسيرة التركيز على ما تسميه «خطر الاستبداد الروسي». وقد أوضح ميرتس ما يعنيه ذلك عملياً حين قال: إن الفشل في توسيع القدرات العسكرية الألمانية بسرعة كافية قد يجعل «الخدمة العسكرية الإلزامية أمراً لا مفر منه». وهي نبرة باتت تتردد الآن لدى النخب الحاكمة في المملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا وبولندا ودول الشمال الأوروبي ودول البلطيق.

غير أن الفرضية التي تقوم عليها هذه الدعوات تظل موضع تشكيك عميق؛ فالادعاء بأن ألمانيا -أو أوروبا عموماً- تواجه تهديداً عسكرياً وشيكاً من روسيا هو ادعاء خلافي. فموسكو تبدو فاقدة للموارد والقدرات التي تخولها غزو دول الناتو، وبعد قرابة أربع سنوات من الحرب لم تنجح حتى في السيطرة على كامل الأراضي الأوكرانية.

وبالمثل تفتقر ألمانيا وعدد من الدول الأوروبية الأخرى إلى القدرة على إعادة فرض التجنيد الإجباري على نطاق واسع، أو على تحويل قاعدتها الصناعية سريعاً إلى اقتصاد حرب. فقواتها التطوعية تتقلص وتشيخ، وأهداف التجنيد لا تتحقق، وأنظمة التدريب بطيئة. كما أن القاعدة الصناعية الألمانية تعرضت للتآكل في حين يرزح قطاع السيارات تحت ضغط المنافسة الصينية. أما الطموح غير المعلن بالحفاظ على التفوق الصناعي عبر التحول إلى تصنيع الأسلحة؛ فأسهل في الإعلان منه في التحقيق. وتعاني معظم أوروبا من قيود هيكلية مشابهة.

والنتيجة وضع سريالي تُطرح فيه العسكرة بوصفها بديلاً عن الدبلوماسية، وكأن التجنيد الإجباري قادر على ملء الفراغ السياسي الذي خلّفه التخلي شبه الكامل عن أي انخراط دبلوماسي جاد في القارة.

ويرى بعضهم في هذه اللحظة «تسايتن فِنده»، أي: نقطة تحول تاريخية تُصوَّر على أنها تحمّل أوروبي متأخر لمسؤولية الأمن الذاتي. غير أنها في حقيقتها لا تعدو كونها إعادة توزيع للأعباء داخل التحالف الأطلسي، وهو ما كان يمكن احتماله لولا أن القوة الرئيسية الدافعة نحو التصعيد لا تزال متمركزة عبر الأطلسي. وفي المقابل؛ يُنتظر من أوروبا أن توفر اليد العاملة، والانضباط الاجتماعي، والامتثال السياسي.

وهكذا يظل التفكير الاستراتيجي يُصاغ ويُدار عن بُعد من واشنطن فيما تتحمل أوروبا المخاطر والتبعات كاملة.

إذا كان ميرتس ونظراؤه في الاتحاد الأوروبي يعتقدون أن إعادة التسلح المكثفة تشكل مخرجاً من المأزق الذي صنعوه، فهم واهمون. فمنذ عام 2022 قوض القادة الأوروبيون أمن الطاقة، وخسروا قدراتهم التنافسية، وأفرغوا قاعدتهم الصناعية من مضمونها، وتبنوا سياسة نزع التصنيع بوصفه فضيلة، وكل ذلك باسم حرب لا يُرجَّح أن تُكسب، لا سيما أنها تُدار وفق استراتيجية لا يملكون السيطرة عليها. وفي الظروف الطبيعية كان من شأن ذلك أن يولد دواراً سياسياً. لكن المستشار الألماني يصر بجرأة لافتة على أن بلاده ليست ضعيفة ولا صغيرة.

في أنحاء أوروبا تُغلق المصانع، وترتفع أسعار الطاقة، وتهاجر سلاسل الإمداد بينما تواصل مؤسسات الاتحاد الأوروبي العمل في حالة من التنافر المعرفي بلا رؤية واضحة. لقد تلاشت الدبلوماسية، ولم يُطرح حتى نقاش جدي حول بنية أمنية جديدة للقارة.

وبدلاً من ذلك يُختزل كل شيء في مصفوفة واحدة تُعرف باسم «رهاب روسيا»، وهو شعور يتنكر في هيئة استراتيجية. والمفارقة الكبرى أن الاتحاد الأوروبي يزعم الدفاع عن الحرية في الوقت الذي يناقش فيه ويقر قوانين قسرية تقيد حرية التفكير والتعبير داخلياً.

هل يمكن الزعم بجدية أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون احترم إرادة الناخبين في أحدث الانتخابات، أو أن ما جرى في المسار الانتخابي الأخير في رومانيا كان طبيعياً؟ وكيف يمكن لمؤسسات الاتحاد الأوروبي أن تفرض عقوبات متزايدة على أفراد دون إجراءات قانونية واجبة لمجرد تبنيهم آراء مخالفة؟

لقد فضّلت العسكرة على الحس السليم والواقعية، وزُرع الخوف بإلحاح في الرأي العام، وحلّت السرديات غير المقنعة محل التفكير الاستراتيجي. وبدلاً من مراجعة هذا المسار التدميري مضى ميرتس إلى جانب رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، ومعظم قيادة الاتحاد الأوروبي في تعميقه.

فقد حاولوا مصادرة الأصول الروسية المجمدة في المصارف الأوروبية لتمويل الحرب في أوكرانيا متجاهلين تحذيرات البنك المركزي الأوروبي، وتنبيهات وكالات التصنيف الائتماني بشأن أخطار تقويض المصداقية المالية لأوروبا. وبعد الحماقة السياسية المتمثلة في السعي إلى «هزيمة استراتيجية» لروسيا، والأضرار الاقتصادية التي سببتها العقوبات والتخلي عن الغاز الروسي كادت أوروبا أن تضيف التخريب المالي الذاتي إلى القائمة.

لكن لحسن الحظ فشل هذا المخطط؛ ففي الأسبوع الماضي رفض المجلس الأوروبي إقراره، واعترضت عليه بلجيكا والمجر وجمهورية التشيك وسلوفاكيا وإيطاليا، حتى فرنسا. وبدلاً من ذلك قرر الاتحاد الأوروبي تحميل دافعي الضرائب المثقلين أصلاً عبء قرض جديد بقيمة 90 مليار يورو لأوكرانيا.

وعندما ينظر المؤرخون إلى هذه المرحلة قد يفاجَأون بالقول: إن رئيس وزراء بلجيكا بارت دي فيفر الذي كثيراً ما سخر منه الإعلام السائد كان له دور حاسم في إنقاذ المصداقية المالية لأوروبا. ومع التطلع إلى عام 2026 لا تبدو هناك مؤشرات قوية على استعداد القادة الأوروبيين للتخلي عن مسارهم الخاطئ، وإن كانت هناك بارقة تغيير خافتة مع إشارة ماكرون إلى استعداد متجدد للحوار مع روسيا، وهي خطوة مشجعة، لكنها غير كافية.

إنّ أي تحول حقيقي يتطلب الالتزام بمبدأين أساسيين: أولهما عدم قابلية الأمن للتجزئة، أي أن أمن دولة لا يمكن تحقيقه على حساب أمن دول أخرى في الإقليم نفسه. فلا يمكن لدول أوروبا الشرقية -ومنها أوكرانيا- أن تصر على أن أمنها مرهون حصراً بعضوية الناتو إذا كانت روسيا ترى في ذلك تهديداً وجودياً، ويجب أن تراعي الترتيبات الأمنية تصورات جميع الأطراف لا أن تفضّل بعضها على حساب الآخر. أما المبدأ الثاني فهو الاعتراف بـ«معضلة الأمن» (مفهوم أساسي في نظرية العلاقات الدولية)، ومفاده أن تعزيز دولة ما لقدراتها العسكرية قد يُنظر إليه من قبل الآخرين على أنه تهديد بغض النظر عن النيات.

وعند تطبيق ذلك على أوروبا اليوم يصبح السؤال بديهياً: لماذا ينبغي لروسيا أن ترى برنامج إعادة التسلح الأوروبي البالغ 800 مليار يورو بوصفه دفاعياً بحتاً في حين أن دول الاتحاد الأوروبي تنفق بالفعل أكثر من أربعة أضعاف ما تنفقه روسيا على المشتريات العسكرية؟

من دون إدماج هذه المبادئ في التفكير الاستراتيجي الأوروبي، ولا سيما في أي مفاوضات تتعلق بأوكرانيا فإن عام 2026 مرشح لأن يكون عاماً آخر قاتماً للسلام في القارة.

ماركو كارنيليوس هو دبلوماسي إيطالي تولى منصب المبعوث الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط، والمبعوث الخاص إلى سوريا، وكان حتى نوفمبر 2017 سفير إيطاليا لدى العراق

الترجمة عن موقع ميدل إيست آي