ماكنمارا بين الولاء والخطأ: فشل السياسة الأمريكية في فيتنام
29 ديسمبر 2025
ترجمة: نهى مصطفى
29 ديسمبر 2025
في صباح أحد أيام نوفمبر عام 1966، وصل وزير الدفاع الأمريكي روبرت ماكنمارا إلى جامعة هارفارد، متوقعا يوما حافلا بالحوارات الحيوية والهادئة مع الطلاب ومجموعة من الأساتذة.
كان السخط الشعبي المتزايد على حرب فيتنام قد تصاعد في الجامعات خلال الأشهر السابقة، وأصبح ماكنمارا، أحد أبرز مهندسي «أمركة» الحرب عام 1965، والتي شهدت نشر قوات أمريكية واسعة النطاق، هدفا متكررا لاحتجاجات الطلاب؛ ومع ذلك، سافر إلى هارفارد دون حراسة أمنية.
بينما يخرج من مبنى كوينسي هاوس بعد تناول الغداء مع طلاب المرحلة الجامعية الأولى، أحاط به حشد من الطلاب، مانعين خروجه. ومع ازدياد الحشد إلى عدة مئات، تمكن من الوصول إلى سيارته. صعد على غطاء المحرك، فناوله أحدهم ميكروفونا، ووافق على الإجابة عن الأسئلة. لكنه فوجئ بهتافات الطلاب الساخرة. وبغضب متزايد، أعلن وزير الدفاع: «قضيت أربعا من أسعد سنواتي في حرم جامعة بيركلي، أقوم ببعض الأمور نفسها التي تقومون بها هنا. لكن كان هناك فرق جوهري: كنت أكثر حزما وأكثر تهذيبا في آن واحد... كنت أكثر حزما حينها، وما زلت أكثر حزما الآن».
وصفه المتظاهرون بـ«الفاشي» و«القاتل».
على الرغم من موقفه المتحدي، كان ماكنمارا قلقا في قرارة نفسه بشأن وضع الحرب، كما أوضح في جلسة مغلقة مع أساتذة في وقت لاحق من ذلك اليوم. في الأشهر التالية، ازداد تشاؤم ماكنمارا. فقد أقنعه تحليله للوضع بأن فيتنام الشمالية، وهي مجتمع ريفي في معظمه، لا يمكن إخضاعها بقصف جوي.
وأثار قلقه تزايد أعداد القتلى، بما في ذلك ارتفاع عدد الضحايا المدنيين. وبحلول مطلع عام 1967، كان على يقين من أن معنويات العدو لم تنهار وأن الاستقرار السياسي لا يزال بعيد المنال عن النظام المدعوم من الولايات المتحدة في فيتنام الجنوبية. خلال ذلك، كانت الحرب تقوض مصداقية الولايات المتحدة على الصعيدين المحلي والدولي، سواء لدى الحلفاء أو الخصوم. شكك في حكمة واشنطن.
كتب ماكنمارا إلى الرئيس ليندون جونسون في مايو 1967: «قد يكون هناك حد لن يسمح العديد من الأمريكيين وجزء كبير من العالم للولايات المتحدة بتجاوزه. صورة أعظم قوة عظمى في العالم وهي تقتل أو تصيب 1000 مدني أسبوعيا، بينما تحاول إخضاع دولة صغيرة متخلفة في قضية محل جدل حاد، ليست صورة جميلة».
حتى في ذلك الحين، ظل ماكنمارا متفائلا علنا، معربا عن ثقته بإمكانية تحقيق النصر. لكن أيامه في الإدارة كانت معدودة. ففي نوفمبر، أعلن جونسون، الذي ضاق ذرعا بخيبة أمل ماكنمارا ومطالباته بتغيير السياسة نحو المفاوضات، أن وزير الدفاع سيغادر الإدارة ليتولى رئاسة البنك الدولي، ما يعني فعليا إقالته.
وبحلول أواخر فبراير 1968، كان ماكنمارا قد رحل. وسرعان ما حل محله كلارك كليفورد، أحد أبرز الشخصيات في الحزب الديمقراطي، والذي سرعان ما تبنى النظرة القاتمة نفسها لآفاق الحرب.
يعد كتاب «ماكنمارا في الحرب» (McNamara at War) للكاتبين الأخوين فيليب تاوبمان وويليام تاوبمان، سردا دقيقا ومقنعا في معظمه لما يعرف غالبا بـ«حرب ماكنمارا»، ويشمل أحداث زيارة ماكنمارا إلى جامعة هارفارد والتطورات التي تلتها في الأشهر اللاحقة.
في الأدبيات الواسعة والمتنامية حول الحرب، نجد أن الدراسات المتعمقة حول دور ماكنمارا في صياغة التزام الولايات المتحدة تجاه فيتنام الجنوبية قليلة بشكل مُثير للدهشة، على الرغم من هيمنته في مجلس الوزراء في عهد جونسون والرئيس جون إف. كينيدي، وفترة ولايته التي امتدت سبع سنوات في البنتاجون. (ولا يزال وزير الدفاع الأطول خدمة في تاريخ الولايات المتحدة). لسنوات، تساءل المؤرخون متى سيصدر كتاب ضخم عن ماكنمارا وفيتنام. وها هو ذا قد صدر.
تبدو قصة ماكنمارا خاصة، لكنها في الحقيقة تتكرر كثيرا في التجربة السياسية الأمريكية. فمسؤولون كبار قبله وبعده واجهوا ضغوطا للبقاء في مناصبهم وكبت شكوكهم، خوفا من اتهامهم بالخيانة أو الضعف وخسارة سمعتهم وقضيتهم. لذلك فضّلوا الاستمرار، ثم ندموا لاحقا، بينما تحملت أمريكا كلفة ذلك. والدرس الأساسي من تجربة ماكنمارا أن استعداد المسؤولين للاستقالة دفاعا عن قناعاتهم كان سيمنح المواطنين ثقة بأن من يواصلون العمل يفعلون ذلك عن اقتناع حقيقي، لا بدافع الخوف أو الحسابات الشخصية.
يقدم الأخوان تاوبمان دراسة ممتازة عن السنوات التكوينية لشخصية ماكنمارا. ولد ماكنمارا في سان فرانسيسكو عام ١٩١٦ لأب بارد ومنعزل وأم مثابرة وحازمة، وقد أظهر منذ صغره براعته الفكرية وقدرته الهائلة على العمل الجاد. تفوق في جميع مراحل تعليمه، مظهرا عقلا تحليليا حادا، ومهارة في التعامل مع الأرقام. في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، انضم ماكنمارا إلى جمعية فاي بيتا كابا في سنته الثانية، وأصبح عضوا في جمعية الدب الذهبي، وهي جمعية شبه سرية تُعنى بتعزيز القيادة بين الطلاب.
بعد تخرجه عام ١٩٣٧، التحق ماكنمارا بكلية هارفارد للأعمال، وبرز فيها بشكل لافت لدرجة أنه دُعي للانضمام إلى هيئة التدريس كأستاذ مساعد في إدارة الأعمال بعد حصوله على درجة الماجستير بفترة وجيزة.
خلال الحرب العالمية الثانية، استعان به روبرت لوفيت، مساعد وزير الحرب لشؤون الطيران آنذاك، وعدد من المتخصصين الآخرين في الإدارة، لإضفاء الدقة والكفاءة على دراسة فعالية القوات الجوية في عمليات القصف. وبرز ماكنمارا مجددا كشخص يتمتع بذكاء تحليلي فائق وشغف كبير بالمعرفة.
بعد الحرب، انضم ماكنمارا إلى شركة فورد للسيارات، وعين مراقبا ماليا للشركة عام 1949، وترقى إلى منصب نائب رئيس المجموعة المسؤول عن جميع أقسام السيارات والشاحنات بحلول عام 1957.
وفي 9 نوفمبر 1960، وهو اليوم نفسه الذي أعلن فيه كينيدي فوزه في انتخابات رئاسية متقاربة، عين ماكنمارا رئيس الشركة، ليصبح أول شخص من خارج عائلة فورد يشغل هذا المنصب منذ عام 1906.
بعد أسابيع قليلة من فوزه، عين كينيدي ماكنمارا رئيسا لوزارة الدفاع. وسرعان ما أصبح ماكنمارا الأول بين نظرائه في حكومة كينيدي، وحظي بإشادة واسعة. بفضل استخدامه لتحليل النظم في جعل البنتاجون يعمل بكفاءة اقتصادية أكبر من خلال تقليل ازدواجية الأسلحة بين مختلف فروع القوات المسلحة وتحسين تخصيص الموارد. أمام لجان الكونجرس، أبهر المشرعين بذكائه وإلمامه بالتفاصيل وأسلوبه الواضح والموثوق في العرض. أما بين مساعديه، فقد كان مصدر إعجاب وولاء، لا سيما لالتزامه الشديد بالعمل.
رفض كبار الضباط العسكريين أسلوب ماكنمارا الحازم ومساعديه المدنيين، واعتبروه متعجرفا، ما أدى إلى صراعات متكررة مع رؤساء الأركان المتحالفين مع مشرعين مطالبين بزيادة الإنفاق.
ورغم ذلك، انتصر ماكنمارا في كثير من هذه الصراعات، وترك بصمة عميقة بإعادة تنظيم البنتاجون، والانخراط في قضايا الأمن القومي، واعتبار الأسلحة النووية عديمة الجدوى، والدفع نحو عقيدة أكثر مرونة تقوم على «القوة المضادة» بدل استهداف المدن.
في بداية أزمة الصواريخ الكوبية في أكتوبر 1962، فاجأ ماكنمارا زملاءه بتأكيده أن نشر الصواريخ السوفيتية في كوبا لم يُحدث تغييرا ملاحظا في التوازن النووي.
وخلال الأيام العصيبة التي تلت ذلك، لم يكن ثابتا دائما في موقفه، لكنه ظل صوتا عقلانيا وحكيما، ومؤيدا مبكرا للحصار الذي ساهم في نهاية المطاف في نزع فتيل الأزمة.
لكن فيتنام هي التي ستخلد إرث ماكنمارا في الحكومة. فمنذ الأيام الأولى للإدارة عام ١٩٦١، اضطلع بدور قيادي في توجيه الدعم الأمريكي لفيتنام الجنوبية. وفي خريف ذلك العام، ومع تصاعد حدة التمرد ضد حكومة سايجون، عاد الجنرال ماكسويل تايلور ونائب مستشار الأمن القومي والت روستو من مهمة تقصي حقائق إلى سايجون، مُوصين بإرسال المزيد من المستشارين العسكريين الأمريكيين وعدد محدود من القوات المقاتلة. أيّد ماكنمارا التوصية في البداية، ولكن عندما استبعد كينيدي إرسال قوات برية، تبنّى الوزير هذا الموقف سريعا ـ وهي ليست المرة الأخيرة، كما يُشير الكاتب آل تاوبمان بتهكم، التي «بدا فيها كأنه يُكيّف آراءه حول فيتنام لتتوافق مع آراء رئيسه».
قبل تدويل حرب فيتنام عام 1965، إذ نظر ماكينمارا وزملاؤه إلى الصراع من منظور أيديولوجيا الحرب الباردة، مؤمنين بواجب «الدفاع عن الحرية» وبنظرية الدومينو، مع ثقة مفرطة بصواب قراراتهم حتى منتصف 1965.
ورغم أن هذا التفكير كان شائعا ومفهوما في سياقه الزمني، أقر ماكنمارا لاحقا بأن الأيديولوجيا والغرور والجهل بدوافع الطرفين الفيتناميين قادت إلى فشل في تقدير الخيارات وتبعاتها.
لا يمعن كتاب «ماكنمارا في الحرب» النظر في الفترة الحاسمة لصنع القرار بين أواخر صيف 1963 ومارس 1965، إذ يركز على نقاشات يوليو 1965 بعد أن كان قرار التدويل قد اتُخذ فعليا. وقد أقر ماكنمارا لاحقا بأهمية تلك الأشهر الثمانية عشر، مؤكدا أن الانسحاب من فيتنام الجنوبية كان ممكنا في أواخر 1963 أو أواخر 1964 أو أوائل 1965.
يكشف تحليل دقيق للسجلات الداخلية الواسعة لتلك الفترة أن كبار المخططين الأمريكيين كانوا على دراية معقولة بديناميكيات الصراع والعقبات التي تعترض سبيل النجاح العسكري الأمريكي.
كانوا، في معظمهم، واقعيين متشائمين. في أواخر حياته، تبنى ماكنمارا شعار «لو كنا نعلم»، لكن في بداية عام 1965، كان لديه بالفعل فهم راسخ لقوة التمرد، وعدم الاستقرار السياسي المزمن في جنوب فيتنام، وضعف الدعم للحرب في الداخل والخارج. كان هو وزملاؤه يعلمون أن القادة الديمقراطيين في مجلس الشيوخ الأمريكي يعارضون توسيع الالتزام العسكري الأمريكي. شككت قوى حليفة رئيسية، مثل كندا وفرنسا واليابان والمملكة المتحدة، في أهمية الصراع للأمن الغربي. وأعرب مسؤولون أمريكيون رفيعو المستوى أنفسهم عن شكوكهم في هذا الشأن، مما يشير إلى أن نظرية الدومينو قد فقدت الكثير من تأثيرها، على الأقل في الخفاء.
منذ عام 1962، بدأ ماكنمارا يشكك في قدرة فيتنام الجنوبية على مكافحة التمرد، حتى مع المساعدات الأمريكية. وتظهر تسجيلات اجتماعات رفيعة المستوى من أكتوبر 1963 قوله لزملائه: «نحتاج إلى طريقة للخروج من فيتنام». وفي أوائل عام 1964، عقب اغتيال كينيدي، أعرب عن مخاوفه العامة لجونسون الذي أبدى معارضة.
وفي عام 1965، أصبح أكثر صراحة. ففي أواخر يونيو، مع وصول المزيد من القوات البرية الأمريكية إلى فيتنام الجنوبية، اعترف ماكنمارا لمسؤول بريطاني رفيع المستوى قائلا: «لا أحد في قلب الأحداث يتحدث عن تحقيق نصر».
ومع ذلك، فقد أيد ماكنمارا نفسه التزام القوات البرية الأمريكية بشكل كامل وكان أحد مهندسي عملية الرعد المتدحرج. بدأت حملة القصف المتواصلة في مارس 1965 واستمرت لأكثر من ثلاث سنوات، بهدف كسر عزيمة هانوي وتعزيز صمود سايجون. وفي ربيع ذلك العام، أعرب أمام المشرعين والصحفيين عن ثقته التامة بأن الإجراءات الجديدة ضرورية وستؤتي ثمارها.
يدرك المؤلفان التناقض بين شكوك ماكنمارا الشخصية وتقاريره العامة المضللة، ويشيران إلى أن طموحه الشخصي وولاءه للرئيس جعلاه يستمر في منصبه رغم عدم إمكانية بناء جهد عسكري ناجح. مع تصاعد الحرب، ضغط من داخل الحكومة لوقف القصف الأمريكي وقيّد الهجمات الجوية على شمال فيتنام، مستنتجا أن تكثيف القصف لن يؤدي إلى نصر حقيقي.
يصعب تصديق اعتقاد ماكنمارا بأن نافذة التسوية السياسية ظلت مفتوحة حتى مع تصاعد الحملة العسكرية الأمريكية. فهو لم يُقرّ قط بأن أي اتفاق تفاوضي، من وجهة نظر هانوي، سيتطلب انسحابا أمريكيا، مما سيؤدي على الأرجح إلى سيطرة هانوي على الجنوب.
كما أنه لم يوفق بين رغبته في التوصل إلى حل وسط وعدم اهتمام جونسون باستكشاف سبل دبلوماسية مبتكرة للخروج من الحرب. وقد صرح وكيل وزارة الخارجية جورج بول لزملائه بأن ماكنمارا كان «يتبع الأسلوب التقليدي للتفاوض مع بغل؛ يستمر في ضربه على رأسه بلوح خشبي حتى يفعل ما تريد».
يشير الأخوان تاوبمان إلى أن مشكلة ماكنمارا الأساسية كانت عجزه عن التنصل من دوره في توريط الولايات المتحدة في حرب فيتنام، حيث لم يظهر شكه منذ البداية في فرص النصر. استمر في منصبه رغم يأسه وخيبة أمل المحيطين به، محافظا على صورة رجل واثق للجمهور والكونجرس، ما يجعل الحكم على دوره في الحرب قاسيا.
في شيخوخته، شعر ماكنمارا باليأس بسبب تجاهل خلفائه لنصائحه حول التعاطف مع الخصم، والتشكيك في المسلمات، وحدود القوة الأمريكية، ومخاطر التصعيد النووي. رغم عيوبه، واجه أخطاءه وأقر بها، قائلا: «لقد كنا مخطئين، مخطئين خطأ فادحا»، مقدما درسا نادرا حول مخاطر الولاء المطلق للرؤساء في الأمن القومي.
