هل يؤثر الذكاء الاصطناعي على الجامعة؟

29 ديسمبر 2025
29 ديسمبر 2025

لم يَعد الذّكاء الاصطناعيّ مجرد طفرة تقنيّة عابرة، بل أصبح أداة فاعلة تُعيد تشكيل شتى القطاعات، وفي مقدمتها التعليم.

فالجامعة التي عُرفت تاريخيًا بوصفها المؤسسة الأهم في إنتاج المعرفة تجد نفسها اليوم أمام تحوّل غير مسبوق في أدوات البحث والتعليم وإدارة المعرفة. هذا التحول يثير سؤالًا مركزيًا: هل يؤثر الذّكاء الاصطناعيّ على الجامعة بوصفها مؤسسة معرفية، أم أنه مجرد أداة جديدة تعزز أدوارها التقليدية؟

تاريخيًا تشكّل التعليم الجامعي بوصفه الإطار المؤسسي الذي تُنتَج داخله المعرفة العلميّة وفق قواعد التحقق والتحكيم والتراكم. فقد ظهرت الجامعات الأوروبية الأولى منذ أواخر القرن الحادي عشر بوصفها فضاءات منظمة لتدريس القانون والطب معتمدة على أدوات معرفية تقليدية كالمناظرات العلمية والمخطوطات والنقل الشفهي للمعرفة.

ومع مطلع القرن التاسع عشر شهد التعليم الجامعي تحوّلًا جذريًا مع بروز نموذج الجامعة البحثية الحديثة الذي ارتبط بإصلاحات المُفكّر التربوي فيلهلم فون همبولت عام 1810؛ حيث أُعيد تعريف الجامعة كمؤسسة لإنتاج المَعرفة لا مجرد تدريسها من خلال اعتماد المختبرات العلمية والبحث التجريبي والنشر الأكاديمي المُنظم.

وقد أسهم هذا المسار التاريخي في ترسيخ دور الجامعة بوصفها الحارس المؤسسي للمعرفة العلمية ومنتِجها المعترف به حتى نهاية القرن العشرين قبل أن يعيد دخول الذّكاء الاصطناعيّ إلى المشهد الأكاديمي طرح سؤال السلطة المعرفية بصيغة جديدة: من ينتج المعرفة اليوم وبأي أدوات وتحت أي ضوابط؟

وبحسب تقرير نشرته جامعة العلوم الصحية في الولايات المتحدة (2024) تُستخدم تقنيات الذّكاء الاصطناعي في الجامعات لتحسين التعلُّم المخصص، وأتمتة بعض عمليات التقييم، ودعم اتخاذ القرار الأكاديمي ما يتيح للأساتذة وقتًا أكبر للتركيز على الإرشاد والتفاعل النوعي مع الطلبة.

ويعكس هذا التوجه انتقالًا تدريجيًا من التعليم الموحد إلى التعليم القائم على تحليل البيانات وفهم أنماط تعلم الطلبة. فالذّكاء الاصطناعيّ لم يعد أداة مساعدة فقط، بل أصبح عنصرًا مؤثرًا في مختلف جوانب التعليم.

وفي مجال البحث العلمي يبدو التأثير أكثر عمقًا.

فقد أظهرت دراسة تشين وآخرون (2024) أنّ الذّكاء الاصطناعيّ يُسهم في تسريع تحليل البيانات الضخمة واكتشاف الأنماط المعقدة، ودعم التعاون بين التخصصات، لكنه في الوقت ذاته يثير تساؤلات تتعلق بالسلامة الذهنية الطلبة والباحثين خصوصًا من حيث الاعتماد المفرط على أدوات الذّكاء الاصطناعيّ وتأثيرها في مهارات التفكير النقدي.

وتشير الدراسة كذلك إلى أنّ الاستخدام غير المنظم للذّكاء الاصطناعيّ قد يؤدي إلى ضغوط نفسية جديدة رغم ما يقدمه من كفاءة وسرعة.

ولا يقتصر الجدل على الطلبة والباحثين، بل يمتد إلى أعضاء هيئة التدريس أنفسهم؛ فقد أظهر استطلاع أجرته صحيفة هارفارد كريمسون (2023) أنّ نحو 47% من أعضاء هيئة التدريس في جامعة هارفارد يرون أنّ الذّكاء الاصطناعيّ سيكون له تأثير سلبي في التعليم الجامعيّ في حين عبّر نحو 21٪ من المشاركين فقط عن نظرة إيجابية واضحة تجاهه. هذا التباين يعكس حالة من القلق المهني والأكاديمي، خصوصًا في ظل غياب سياسات واضحة تُنظِّم استخدام أدوات الذّكاء الاصطناعيّ في الجامعات.

من جهة أخرى تؤكد تحليلات منشورة في منصة Insight Into Academia (2024) أنّ الذّكاء الاصطناعيّ يحمل فرصًا عديدة لتحسين الإنتاجية البحثية وجودة التعليم، لكنه في المقابل يفرض تحديات أخلاقية تتعلق بالنزاهة الأكاديمية، وحقوق الملكيّة الفكريّة وحماية البيانات.

وفي دراسة نشرتها مؤسسة تايلور آند فرانسيس (2025) أشار الباحث هولمز وزملاؤه إلى أنّ تأثير الذّكاء الاصطناعيّ في التعليم العالي يعتمد على السياسات المؤسسية ومستوى التدريب والبنية التقنية الداعمة.

في هذا السياق تبرز توصية منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) بشأن أخلاقيات الذّكاء الاصطناعيّ بوصفها إطارًا عالميًا مرجعيًا. فقد أكدت اليونسكو في توصيتها الصادرة في (2021) على مبادئ أساسية من بينها الرقابة البشرية، والشفافية، والإنصاف وعدم التمييز، وحماية البيانات. وتمثل هذه المبادئ نقطة ارتكاز مُهمة للجامعات لا سيما الجامعات في سلطنة عُمان عند وضع سياسات تنظّم استخدام الذّكاء الاصطناعيّ في التعليم والبحث العلمي.

وفي السياق العُماني يكتسب هذا النقاش أهمية كبرى في ظل التوجه نحو التحول الرقمي وبناء اقتصاد قائم على المعرفة؛ فالجامعات والكليات والمؤسسات البحثية مطالبة بتحقيق توازن بين تبنّي أدوات الذّكاء الاصطناعيّ المختلفة والحفاظ على القيَم الأكاديمية.

فالذّكاء الاصطناعيّ رغم قدرته على توسيع حدود التحليل والفهم لا يمتلك بذاته المعايير الأخلاقية أو المسؤولية الاجتماعية التي تقوم عليها المعرفة الجامعية.

في المحصلة لا يبدو أن الذّكاء الاصطناعيّ سيُلغي دور الجامعة بقدر ما سيدفعها إلى إعادة تعريف هذا الدور؛ فالمستقبل الأقرب ليس منافسة بين الإنسان والآلة، بل شراكة معرفية تُوجَّه فيها أدوات الذّكاء الاصطناعيّ بقيَم أكاديمية وإنسانية واضحة.

لذا تبقى الجامعة في ظل هذه التحولات هي الفضاء الأهم لإنتاج معرفة مسؤولة وتشاركية وقادرة على خدمة المجتمع والتنمية إذا ما أحسنت التعاطي والتكيّف مع التحولات التقنية المُتسارعة.