بين الجناة والبطل في بوندي: الإسلام دين السلام
جاء قرار الحكومة الأسترالية باعترافها الرسمي بدولة فلسطين مستقلة وذات سيادة في سبتمبر الماضي على لسان رئيس الوزراء أنتوني ألبانيز ووزيرة الخارجية بيني وونغ ممثلًا مفترقًا واضحًا في السياسة الخارجية الأسترالية؛ استجابة لضغوط شعبية وسياسية متصاعدة طالبت بموقف أكثر جرأة تجاه القضية الفلسطينية.
ورغم الاعتراف ظلت الحشود تطالب حكومة أستراليا باتخاذ موقف أكثر من مجرد رمزية الاعتراف وصولا إلى فرض عقوبات على إسرائيل، كما فعلت إزاء روسيا في حربها مع أوكرانيا.
لم يأت اعتراف حكومة أستراليا بفلسطين من فراغ، بل جاء بعد أكثر من 40 مظاهرة خرجت في أنحاء أستراليا قبلها بأسابيع قليلة مع مشاركة حشود كبيرة في ولايات مثل سيدني وبرزبين وملبورن، فلا أقل حينها من الاعتراف تضامنا مع نحو 350 ألفا انضموا إلى المسيرات، منهم 50 ألفًا تقريبًا في برزبين، لكن هذا الاعتراف الرمزي في سبتمبر من هذا العام لم يمر مرور الكرام على إسرائيل التي صعدت نبرة توتر العلاقات بينها وبين أستراليا متهمة إياها بمعاداة السامية في موقفها الداعم لفلسطين كما تعتقد.
وكان وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر قبل هذه المظاهرات الداعمة فلسطين قد ادعى أن «معاداة السامية تتفشى في أستراليا بما في ذلك مظاهر عنف ضد اليهود والمؤسسات اليهودية، وتختار الحكومة الأسترالية تغذيتها باتهامات كاذبة، كما لو أن زيارة الشخصيات الإسرائيلية ستزعزع النظام العام، وتضر السكان المسلمين في أستراليا» خاتمًا بيانه بالقول «هذا أمر مخز وغير مقبول».
كما اتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نظيره الأسترالي أنتوني ألبانيز بالخيانة؛ بسبب قرار حكومته الاعتراف بدولة فلسطينية «سياسي ضعيف خان إسرائيل وتخلى عن يهود أستراليا»، «أعتقد أن سجله سيظل مشوها للأبد؛ بسبب الضعف الذي أبداه في مواجهة وحوش حماس الإرهابيين».
وما موقف إسرائيل هذا من أستراليا إلا لأهميتها؛ كونها فتحت حدودها أمام اليهود الفارين من ألمانيا منذ ما يزيد عن سبعين عامًا ما جعلها بالنسبة لإجمالي عدد سكّانها موطن أكبر عدد من اللاجئين اليهود القادمين من ألمانيا بعد إسرائيل.
كل ذلك مقدمة نريد بها الوصول إلى مراجعة الهجوم المسلح الذي وقع خلال احتفال ديني يهودي على شاطئ بوندي في مدينة سيدني، والذي ارتفعت حصيلة ضحاياه لتبلغ 16 قتيلاً و40 مصاباً -وفق ما نقلته هيئة الإذاعة الأسترالية عن وزير الصحة- في وقت أعلنت فيه الحكومة الأسترالية عزمها دراسة تشديد قوانين حيازة واستخدام الأسلحة النارية عقب الهجوم الذي شكل حدثا فظيعا يزيد من حجم الضغوطات على الحكومة الأسترالية التي قررت مراجعة منظومتها الأمنية وقوانين حيازة الأسلحة فيها مؤكدة رعاية رعاياها من اليهود ضد أي عداء على السامية.
ومع التأكيد على مبدأ رفض العنف والإرهاب ضد أي فرد أو جماعة، إلا أن الكثير من الأطروحات تستغرب هذا الحادث في توقيت تنامى فيه الوعي الغربي والعربي معا في التفريق بين إسرائيل كدولة واليهودية كدين، ومع تحري الدقة فإن علاقة اليهود بالمسلمين تحديدًا هي في أفضل حالاتها، لا سيما مع تعالي الأصوات اليهودية المنتصرة للإنسان الفلسطيني وحقه في الأرض والحياة ضد عجرفة وتطرف آلة الحرب الإسرائيلية.
هذه الجريمة جاءت بعد تسلسل لأعمال شغب في مدن متفرقة من أستراليا، كلها اندلعت بعد أغسطس المتضمن التصريح باستعداد أستراليا الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
يقينًا سيناريو صنع المشهد عن طريق إسرائيل نفسها ليس ببعيد عن الواقع مسوغًا برغبتها التصعيد لإعادة أستراليا إلى دائرة الصداقة الإسرائيلية مهما صدر عنها من جرائم أو مجازر أو مخالفات للقوانين الدولية.
فهل يمكن تصديق سيناريو كهذا مفترضين التضحية بأرواح كان يمكن أن تتضاعف لولا تدخل البطل (المسلم كما نحب أن نصفه) أحمد الأحمد؛ بائع الفواكه الأسترالي من أصل سوري الذي هاجم أحد المسلحين (المسلمين كما تفضل كثير من الصحف الغربية وصفهم)؟!
هذا الحادث لم يكن الأول في أستراليا. الواقع أن آخر تعديل جرى على قانون حيازة الأسلحة كان في التسعينات من القرن الماضي بعد حادثة انتهت بقتل أضعاف قتلى بوندي، لكن دوافع القاتل حينها اعتبرت نفسية فيما اقتضى الواقع اليوم اعتبار دوافع هذا الحادث إرهابية خصوصا مع مشهد تعوده العالم لكل ملصق إرهابي متمثل في علم داعش خلفيةً لمقطع فيديو متضمنا تهديدًا ووعيدًا بالقتل.
ختامًا: لا يمكن تبرير القتل وتزيين ملابساته أو أسبابه مهما كانت أيًا كان مرتكبه، لكن الأمر يتطلب الدقة حينما يتمثل حادث فظيع كهذا في سيناريو جاهز بسيط كالذي قرأنا تفاصيله مع الإصرار على إدانة المجرم أيًا كان لونه أو اسمه أو دينه أو عرقه بعيدًا عن ملصق علم «داعش» المدعى في كل اعتداء إرهابي.
لا نخفي الإعجاب بإصرار الحكومة الإسرائيلية على البحث الاستقصائي المتأني لتفاصيل الاعتداء مع تعهد بإعلان نتيجة البحث، ليس الآن بشكل انفعالي قد يوقعها في الخطأ، بل في شهر إبريل من العام القادم. كما لا ينبغي تجاوز بطولة «الأسترالي المسلم» وتضحيته بحياته (حيث أصيب برصاصتين من أحد المهاجمين)؛ درءًا لسفك المزيد من الدماء مؤكدًا أن الإسلام هو دين إنسانية وتعايش وسلام.
حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية
