موقف الإسلام من الفن

23 نوفمبر 2021
23 نوفمبر 2021

د. سعيد توفيق

البحث في موقف الدين من الفن يظل بحثًا تاريخيًّا: ففي عالم القدماء كانت الصلة بين الدين والفن صلةً وطيدة؛ لأن الفن كان يعبر بتلقائية عن عالم الناس الديني والأسطوري والاجتماعي. عداء الدين للفن لم يظهر إلا مع أفول الحضارة الأوروبية في العصر الوسيط، فتم توظيف الدين سياسيًّا ليهيمن على شؤون العلم والفكر والفن.

ومن أسف أن نجد هذا المشهد نفسه يتكرر في عالمنا الإسلامي: فمع بزوغ الحضارة الإسلامية ونهضتها، نشأ الاهتمام بالفنون، وأبدع المسلمون على اختلاف طوائفهم وجنسياتهم في مجال فن العمارة وفي فنون الأدب بسائر أشكالها؛ لأن هذه الإبداعات الأدبية كانت وليدة أجواء من الحرية الفكرية والانفتاح على الثقافات المتنوعة التي انضوت تحت لواء الحضارة الإسلامية، وهي إبداعات لا يمكن لبعضها أن يرى النور حتى في يومنا هذا؛ لأن من ينشرها أو يجهر بها ربما يتعرض إلى الاتهام بالكفر والفسوق. ولذلك، فإننا-للأسف-نجد أن الموقف العدائي من الفن لا يزال حاضرًا في وعينا الديني.

وربما يفسر لنا هذا السبب في أن السجال حول مسألة موقف الدين من الفن- الذي كان ينتمي إلى الماضي باعتباره مسألة تاريخية- لا يزال حاضرًا في واقعنا الثقافي. هذا السجال يتعلق بالجدل الدائر حول موقف الشريعة من الفن من حيث الإباحة أو التحريم: ففريق يؤكد منع الشريعة للفنون الجميلة كالتصوير والنحت والغناء بوجه خاص؛ وفريق يرى إباحة الشريعة لمثل هذه الفنون مع الأخذ في الاعتبار بتحفظات ينسبونها إلى الأخلاق الإسلامية. وكل فريق يحاول أن يستند في موقفه إلى آيات من الكتاب الكريم، والسنة النبوية، وأقوال السلَف من الفقهاء. ولذلك نجد هناك استدعاءً لكتابات الأئمة حول موقف الإسلام من الفن، وعلى وجه الخصوص: السَماع والغِناء. ومن أمثلة هذه الكتابات: "رسالة في الغِناء المُلْهى. أمباح هو أم محظور؟" لابن حزم الأندلسي (راجع: رسائل ابن حزم)؛ و"كتاب آداب السماع "لأبى حامد الغزالي (الوارد في الجزء الثاني من كتابه: إحياء علوم الدين)؛ وفتاوى ابن تيمية في "مسألة السماع "؛ وكتاب "حُكم الإسلام في الغناء" لابن قيم الجوزية، والذي يعد جزءًا من كتابه "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان"، وهو كتاب يتخذ موقف التحريم القاطع للغِناء باعتباره رُقية الزنى ومنبت النفاق ومزمور الشيطان، وما إلى ذلك.

والحقيقة أننا لو تأملنا لغة القرآن نفسها، لوجدناها على الفور لغة إبداعية لا نظير لها، حافلة بأصوات موسيقية إعجازية، وكأن الله قد أراد منذ البداية أن يقدم لنا كلامه باعتباره لغة إعجازية في بنائها وصوتياتها، وفي ذلك تأكيد مسبق على أهمية المدخل الفني والجمالي إلى النص القرآني. وهذا هو نفسه ما فتح الباب أمام التنوع في القراءات الجمالية التي أبدعها أساطين القرَّاء. ويكفي أن نتأمل في هذا الصدد قراءة الشيخ مصطفى إسماعيل أو الحُصري أو قراءة الشيخ الفذ المعروف بالقارئ الباكي: محمد صديق المنشاوي الذي يعكف أحيانًا على تلاوة آية واحدة على أنحاء لا حصر لها من الغِناء.

لا نستطيع أن نتفهم تحريم بعض الفقهاء للغِناء وكأنهم لم يستوعبوا شيئًا من جماليات الموسيقا في كثير من آيات القرآن، بل لم يكونوا قادرين على الإحساس بشيء من ذلك. وبوسعنا القول إنه من المستحيل فهم الإعجاز اللغوي في القرآن من دون وعي بجماليات الموسيقا في لغته؛ ولهذا فإن الوليد ابن المغيرة حينما سمعه أول مرة قال قولته الشهيرة: "إن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمُغدِق، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه". وليس أدل على استحسان القرآن للصوت الحسن-كما لاحظ أبو حامد الغزالي-من قوله تعالى: "إن أنكر الأصوات لصوت الحمير". وقد لاحظ الغزالي أيضًا-في الموضع نفسه من كتابه السابق الإشارة إليه-أن الصوت الجميل ليس مباحًا فحسب، بل مستحسن أيضًا؛ حتى إنه قد ذهب إلى القول بأن "من لا يطرب للربيع وأزهاره وللعود وأوتاره، فهو فاسد المِزاج، ليس له من علاج". وإذا كان هذا الفهم المستنير صادر عن حجة الإسلام الذي يحسب على التيار المحافظ في الفكر الديني الإسلامي، فما بالك بالفقهاء والشيوخ الأكثر تحررًا في مجال الفكر والتصوف الذي يقوم على التأويل.

أما عن موقف الإسلام من فن التصوير، فغالبًا ما نجد لدى أعداء الفن استشهادًا بالحديث الذي يروجونه منسوبًا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وهو قوله للسيدة عائشة حينما وضعت بعض الستائر في دارها: "اهتكي هذه السُتر، يُعذَّب المصورون يوم القيامة". لكن فهم هذا القول على أنه يعني معادة الإسلام لفن التصوير هو سوء فهم ناجم عن افتقار أصحابه لأبسط آليات التأويل، وهي فهم السياق التاريخي للنص: ذلك أن المقصود من كلام رسول الله هو الأمر بهتك هذه السُتر بعينها؛ لأنها كانت من الأقمشة المستوردة من بلاد الفرس، وكانت هذه الأقمشة تحمل رسومات أو تصاوير لآلهة في هيئة كائنات مجنحة. ومن ثم، فإن هذه السُتر بعينها تجافي الدعوة إلى التوحيد التي تجسد روح الإسلام الوليد.

ما يفعله البعض بتحريم الفن بزعم أن هذا له سند في الدين، هو ضلال لا يختلف عن ضلال طالبان وداعش الذين قاموا بتحطيم التماثيل الأثرية، وإن كان بصورة أكثر عدوانية وفجاجة من حركة تحطيم أيقونات الدين المسيحي في العصر الوسيط.