من يراقب التغير الاجتماعي؟

30 مارس 2024
30 مارس 2024

يفرز التغير الاجتماعي في صيرورته إما كلفة على المجتمع والمؤسسات الاجتماعية في صيغة مشكلات وظواهر وقضايا، وإما مكتسبات اجتماعية في صيغة تقوية للعلاقات الاجتماعية وكبح لمهددات المجتمع أو استثمار لقدرات أفراده في تنميته وتقدمه. وفي كل الأحوال ترتبط المسألة بالقدرة على تخطيط عملية التغير الاجتماعي؛ والتي تتأتى من خلال السياسات الاجتماعية والاقتصادية، التي تتدخل في مسارين أساسيين: إما الحفاظ على الوضع الاجتماعي القائم، وتدعيم استقرار المجتمع، ووضع أساسات لديمومة الصلات الاجتماعية والتضامن الاجتماعي، أو في مسار إحداث التغيير إما على دور بعض المؤسسات الاجتماعية، أو المهام المتوقعة من أنساق المجتمع؛ سواء كان النسق التعليمي أو القيمي أو الديني أو التبادلي الاقتصادي أو غيرها من الأنساق. وفي كل الأحوال لا يمكن أن تكون هناك قدرة على تخطيط التغيير الاجتماعي دون مراقبة التغير الاجتماعي. والسؤال الذي يطرح نفسه في سياق حالة مجتمعنا: من الذي يراقب التغير الاجتماعي؟ أي هل هناك منظومة مكتملة من أدوات الرصد والمنهجيات التي تشتغل بشكل متسق للتنبه إلى مسارات التغير الاجتماعي، واستشعار التحولات الاجتماعية، والبحث عن المخاطر الاجتماعية المحتملة، وتقييم مسارات الحركة الاجتماعية؟

في الواقع إن مراقبة التغير الاجتماعي لا يزال يستشعر من خلال البيانات الرسمية؛ أي تلك التقارير التي تضعها المؤسسات العامة العاملة مع المجتمع فيما يتعلق بالحالات أو نوعية الطلب على الخدمات، أو في المشكلات التي تلتمس من خلال نسق عمل تلك المؤسسات. وتوظيف تلك البيانات غالبًا ما يكون للأغراض الرسمية، وتدخلات السياسة العامة في بعض الأحيان، وهو أمر محمود أن تكون هناك بيئة متكاملة من البيانات المولدة عن المجتمع؛ ولكن في تقديري هناك عنصران مفقودان: الأول هو الاشتغال البحثي الكافي على تلك المعلومات والبيانات الخام المولدة، والثاني هو أنها تعكس منظورًا واحدًا (مصدرًا واحدًا) لمراقبة حالة التغير الاجتماعي. ومن هنا فإننا نتصور أن المنظومة الفاعلة التي يمكن أن تؤدي دور مراقبة التغير الاجتماعي تكتمل أطرافها حين تكون ممثلة من: مؤسسات حكومية معنية بالسياسة والقضايا الاجتماعية وتستطيع التنبيه الأولي إلى المخاطر المحتملة والتغيرات الاجتماعية -مؤسسات أكاديمية وبحثية تتبع مسارات جادة للرصد الاجتماعي وتعمل ضمن منظومة تكاملية على برامج استراتيجية لرصد التغيرات الاجتماعية- مؤسسات مجتمع مدني تقيس التغيرات الاجتماعية الطارئة في مجالات خدمتها ونشاطاتها وتشتغل بتكاملية لفهم التغيرات الاجتماعية- وحدات وطنية تشتغل على رصد الاتجاهات العالمية والإقليمية الناشئة وتستشرف مستقبل المجتمع في ضوئها وتقدم اقتراحات بناءة للسياسات الاجتماعية لمحاولة توجيه تأثير تلك الاتجاهات -أدوات ذكية تستخدم أحدث منهجيات التقنية لرصد التعبيرات التكنولوجية عن التغير الاجتماعي.

ولتوضيح العنصر الأخير فالنشاط الافتراضي اليوم للفاعلين الاجتماعيين هو أداة معبرة عن شكل من أشكال التغير الاجتماعي؛ ولنجري تجربة على أداة مثل Google Trends التي يمكن أن تزودنا بطبيعة الموضوعات التي يبحث عنها الأفراد في مكان معين عبر الإنترنت، ومقارنته بأماكن أخرى من العالم، عبر أوقات مختلفة. إن ما يبحث عنه الأفراد عبر الإنترنت هو في جزء كبير منه تعبيرٌ عما يشغل عقولهم، اهتماماتهم، تطلعاتهم، هواجسهم. مؤكدا أن الأداة في ذاتها لا تعكس صورة المجتمع وحالته الكلية؛ لكن في الوقت نفسه هي مدخل للفهم ولطرح الأسئلة واختبار الفرضيات حول ما يحوز اهتمام أفراد المجتمع وتغيراته عبر الوقت. لقد قدم أيضًا حقل الإنسانيات الرقمية Digital Humanities مساهمات معتبرة أيضًا في فهم نشاط الأفراد عبر المنصات الرقمية، حيث تمكن أدوات هذا الحقل من رصد الحالة المشاعرية والتفاعلية للمجتمع إزاء ما يدور من قضايا باستخدام اللغة المعبر عنها افتراضيًا. فأدوات مثل Lexalytics Semantria وMonkeyLearn المطورة من هذا الحقل تستطيع اليوم أن تتمكن من التحليل باستخدام مجموعة بيانات في نصوص وتعبيرات الوسائط الاجتماعية. ومثل هذه الأدوات تتمكن اليوم من رصد اتجاهات المشاعر الاجتماعية وفق تعبيرات وتفاعلات وأنشطة الأفراد عبر الوسائط الاجتماعية وبالتالي فهم شكل من أشكال النشاط الاجتماعي وتمكين القدرة على التنبؤ أو مراقبة التغير الاجتماعي في شق منه.

وفي جانب مؤسسات المجتمع المدني فهذه المؤسسات تشتغل اليوم مع قطاعات واسعة من المجتمع، سواء في قطاعات العمل الخيري، أو مجتمعات المهن والوظيفة، أو نسق قضايا المرأة. وتتعاطى بشكل مستمر مع قضايا وظواهر ومشكلات ناشئة في كل حقل تعمل معه، وبالتالي فإنه إذا ضمنا تركيز هذه المؤسسات على تفعيل عمل الرصد الاجتماعي من خلال الدراسات والاستقصاءات وأدوات التتبع الاجتماعي بالشراكة سواء مع المؤسسات الأكاديمية أو البحثية أو المؤسسات العامة فإننا سنكون أمام صورة شبه مكتملة من التحليلات الاجتماعية التي تمكننا من مراقبة التغير الاجتماعي وفهم صيرورته. كما أن استشراف مستقبل المجتمع نظير التغيرات الهيكلية التي تحدث فيه، أو الاتجاهات العالمية والإقليمية الناشئة المؤثرة عليه، أو نتاج السياسات العامة الموجهة لعملياته ونظم تنميته يعد أمرا ذا أهمية قصوى. ووجود وحدات معنية بهذا الصدد تشتغل على استشراف مستقبل قطاعات المجتمع من شأنه أن يعزز من مراقبة التغير الاجتماعي وبالتالي تحسين بيئة تخطيط المجتمع. إن التغير الاجتماعي ليس بالضرورة أن يكون أحداثًا محورية فارقة، كما أنه ليس فقط مجرد ظهور مشكلات غير مألوفة أو ظواهر عارضة على المجتمع. يكمن التغير الاجتماعي في تفاصيل دقيقة ومحددة؛ في اللغة، والتعبيرات، والرموز الاجتماعية، وتمثلات الهوية، في السلوكيات، وتحول العادات، في ما يهتم به الأفراد، وما ينصرفوا عنه، فيما يعطيه الأفراد قيمة، وما ينتقص الأفراد من قيمته، في الكيفية التي ينظر بها الأفراد إلى القضايا المحورية، وفي الكيفية التي تحوز فيها قضية معينة على اهتمام الأفراد. هذه أمثلة على المستوى الجزئي (المبسط)، ولكن مراقبتها بشكل دقيق وحاسم يحقق أجزاء موسعة من فهم ومراقبة التغير الاجتماعي.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان