مقاومة التعاسة بالمنطق
هل يمكن أن تقلِّل من تعاستك بالمنطق؟ تجيب نظرية العلاج المعرفي السلوكي الرائجة حاليا في العلاج النفسي: نعم. تقول النظرية إن الأفكار والقناعات والمعتقدات كلها يمكن أن تؤثر على مزاجك ويمكنها أن تؤثر على سلوكك أيضا، ومزاجك أو مشاعرك وسلوكك من جانبها يمكنها هي الأخرى أن تؤثر في أفكارك. لذا حين تصحح أفكارك أو تمنطقها، يمكنك أن تتحصل على مزاج أفضل أو تصبح على الأقل، أقل تعاسة. لنأخذ مثالا: حين يحقق زميلٌ لك في الدراسة درجات أفضل فلا شك أنك ستشعر وإنْ قليلا بوخز من الألم والحزن والحقد والحسد؛ إنك ترغب في أن تكون الأفضل وتريد أن تكون درجاتك الأعلى وأن يراك الآخرون بحسد ويقولون ها هو الذي حقق ما لم نحقق ووصل إلى ما لم نصل إليه، بيد أن الملابسات والواقع والقدر والسماء والجينات اختاروا، ويا للأسى، زميلَك ليكون الأفضل. وهذا معناه بحسبة بسيطة أنك أقل منه وأنه أذكى وأشطر منك: إنّ تفكيرا كهذا لا شك سيقودك إلى التعاسة. فربما تفكر أنك لم تبذل جهدا كافيا؛ فتلوم نفسك. وربما تفكر أنك مهما بذلت من جهد يتحصّل الآخر، المُفضَّل قدرًا، على درجات أعلى؛ فتيأس. وربما يشطح بك التفكير في أن المعلم يميل إلى زميلك ويمنحه درجات أعلى؛ فتغضب. وربما تسائل نفسك لماذا يكون زميلك أحسن منك وهو لا يملك ما تملك من قدرات؛ فتحسد وتحقد. إنّ سيلًا من الأفكار السالبة غير المنطقية كهذه يمكنه أن يحملك برمتك في تياره ويسكبك بقضك وقضيضك في مستنقع التعاسة!
والعلاج المعرفي السلوكي يقوم بتوجيهك لمساءلة هذه الأفكار وتفنيدها وتصحيحها ووضعها في نسبتها الواقعية الصحيحة. وهذا العلاج في أصله منبثق من الفلسفة الرواقية اليونانية، التي ترى أن المرء يمكنه أن يحسّن من مشاعره ومزاجه باستخدام التفكير والمنطق. انظرْ مثلا إلى أين يقودك تفكيرك حين يواجهك زحام في الطريق؛ فأنت تزمجر غضبا وقد تتلفظ بألفاظ غير لائقة وتُرجِع المشكلة إلى هذه الجهة أو تلك. وطبعا من حقك فعل ذلك، وقد يكون من واجبك أيضا، كمواطن صالح! لكن فيما يتعلق بلحظتها؛ هل يساعدك هذا التفكير في شيء؟ هل غضبك سوف يسرّع سير السيارات أمامك؟ هل سيحل مشكلة الزحام؟ الأمر الوحيد الذي يمكننا التأكد منه بثقة أنك ستكون في وضع مزاجي سيء، وأن هذا قد يتسبب في جعلك تعيسا يومَك كله. ماذا لو أخبرتَ نفسك أنك عالق في الزحام وأنه يمكنك أن تفعل أمورا ذات فائدة وأنت في السيارة؟ ماذا لو فكرتَ أن العيش في المدينة هو في جزء منه عيشٌ في الزحام؟ ماذا لو فكرت أنه يمكنك أن تقوم بارتداد إلى ذاتك وتيقّظت للحظتك وعشتَها مهما شابها من زحام وتأخير؟
من المهم التنبه إلى أن نمط التفكير المذكور في المثال السابق والذي أراه مناسبا، لا يحل المشكلة الأصلية التي هي الزحام، لكنه يفعل شيئا آخر هو تبصيرك بالواقع؛ يقول لك هذا هو الواقع. وهذا النمط من التفكير لا يطلب منك أن تستسلم للواقع؛ حاشا وكلا، بل يقول إن هناك آليات لتغيير الواقع وليس من بينها إغضاب نفسك يوميّا وأنت في طريقك للعمل، فهذه مشاعر يمكن وصفها بأنها غير مفيدة. وقد يقول مُشكِّك، وهذا من حقه أيضا، إن التفكير بهذه الطريقة وفي هذا المثال بالذات فيه استسلام للواقع؛ فقد يجدي الغضب، وإنْ غضبَ عددٌ كبير من الناس فهذا ربما يحرك من الرغبة في التغيير ويدفع إرادة الأشخاص والجهات في المضي قُدما في حل المشكلة الأصلية. مع هذا، يمكن فعل كل هذه الأعمال الإيجابية وأنت راضٍ عن نفسك وفي مستوى مزاجي جيد. وإنْ كان المثال الفارط شائكٌ بعض الشيء لأن الأمر متعلق بما يجب على البلدية مثلا أو المجلس البلدي أن يقوم به، فإننا يمكن أن نزيحه إلى مثال شبيه هو الانتظار في طابور طويل في هايبرماكت؛ فأنت هنا أمام مشكلة تتعلق فقط بأنك وصلت متأخرا عمن يسبقونك في الصف، فإن غضبتَ وارتفع ضغطك وتزوبع مزاجُك، فكل هذه لن تقربك خطوة واحدة في اتجاه المحاسب!
إن الواقع يفرض شروطا وقوانين علينا، وهي أحيانا قوانين صعبة التغيير، وحتى حين تغييرها فإنها قد تُخرِج من رحمها قوانين صعبة هي الأخرى. مقاومة التعاسة بالمنطق تتطلب تفهما للواقع وقوانينه وشروطه وتغيير ما يمكن تغييره وتقبل ما لا يمكن تغييره. يمكن للتعاسة أن تتسلل من كل كوة مفتوحة وتنبت كالأعشاب الضارة من كل شرخ، والتفكير والمنطق والحكمة يمكنها أن تسد الكوات وترتق الشروخ.
د. حسين العبري روائي وطبيب نفسي
