مصطفى البرغوثي والإعلام الغربي المنافق

07 يناير 2024
07 يناير 2024

أتصور أنّ مهنة المذيع أصابها الكثير من الخلل في السنوات الأخيرة بعد انتشار الفضائيات؛ لأنّ كثيرين ممن لا يملكون شروط وموهبة المذيع امتهنوا هذه المهنة، فكان نتيجة ذلك أن شاهدنا هبوطًا في مستوى الرسالة الإعلامية، بعد ظهور مذيعين همُّهم الوحيد أن يستعرضوا عضلاتهم أمام المتلقين، ويفرضوا توجهاتهم على الناس، فابتعدوا عن المهنية وصاروا بعيدين عن هدف برامج الحوارات؛ لأنّ فن إدارة الحوار هو أرقى وأصعب الفنون الإذاعية، إذ المطلوب من المذيع أن يستخرج من ضيفه كمًّا كبيرًا من المعلومات، لا أن يفرض عليه توجهاته ويقاطع الضيف في كلّ لحظة إذا نطق بما لا يعجبه من الآراء. هذه الآفة انتشرت بشكل واسع في الفضائيات العربية؛ فلم نعد نعلم هل نحن نشاهد مذيعًا أم محققًا أمنيًا؟ ولعل المذيعة البريطانية جوليا هارتلي بروير في قناة «»TALKTV المملوكة لروبرت ميردوخ، خيرُ دليل على هذه النماذج السيئة في الإعلام. وشخصيًّا لا أدري مدى شعبيتها قبل الجدل الذي أثارته مؤخرًا حول طريقة تعاطيها مع ضيفها مصطفى البرغوثي الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية، الذي استضافته للحديث عن اغتيال الشيخ صالح العاروري في بيروت، حيث انفعلت خلال اللقاء، صارخة في وجهه، وساخرة من كلامه، وجاهدَت في إسكاته، ولم تعطه الفرصة للحديث، متهمة إياه بأنه «غير معتاد على وجود امرأة تتحدث»، رغم أنّ موضوع اللقاء لم يكن اجتماعيًّا أو يخص المرأة. ونشرت قناة «TALKTV» مقطع فيديو للحظات انفعال مذيعتها، عبر صفحتها على منصة «إكس» معلّقة عليه «جوليا هارتلي بروير تشتبك مع الدكتور مصطفى البرغوثي بعد اغتيال نائب زعيم حماس». بدأت المذيعة مقابلتها بتهنئة إسرائيل باغتيال صالح العاروري، وهذا في حد ذاته استفزازٌ غير أخلاقي للضيف، ولا يتصف بالمهنية ولا بأخلاق المهنة، وعندما سألها مصطفى البرغوثي إن كانت تدين الاحتلال الإسرائيلي، تظاهرت بأنها «صحفية» مدعيةً أنها لا تستطيع التعبير عن أيّ رأي. وعندما سألها هل تعتقد أنّ إسرائيل دولة ديمقراطية؟ أكدت ذلك، إلا أنّ البرغوثي أوضح أنّ رئيسَ الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو دمّر الديمقراطية، وإذا بها تقاطعه منفعلة رافضة الحديث عن تاريخ نتانياهو لضيق الوقت، كما رفضت تكرار البرغوثي الحديث عن السابع من أكتوبر ووضعه في سياق تاريخي، قائلة «أوضحتَ وجهة نظرك خمس مرات.. ليس لدي وقت لذلك». وبعد أن سألها الضيف: «ما الذي لديك من الوقت له»، صرخت طالبة منه انتظارها لإنهاء حديثها قائلة «ربما لستَ معتادًا على نساء يتحدثن». ومن وقاحتها دافعت عن اغتيال الكيان الصهيوني للشيخ صالح العاروري عندما صرخت في وجه البرغوثي: «إذا كنتَ لا تعتقد أنّ رد فعل إسرائيل مقبول، فما هو رد الفعل الذي سيكون مقبولًا بالنسبة لك؟ لديك عشر ثوان متبقية»، فأجاب بهدوء: «إنهاء الاحتلال والسماح للسلام أن يسود لكلا الشعبين»، وبدا أنها غير راضية عن الإجابة، ثم ردت بسخرية: «رائع»، وأنهت المقابلة بقولها: «آسفة لكوني امرأة تتحدث إليك!».

يبدو أنّ المذيعة جوليا هارتلي بروير لا تعايش الواقع، فلا تعلم أنّ فرض رأيها على الناس أصبح غير مقبول، مع انتشار وسائل التواصل الحديثة، التي سحبت البساط من الإعلام الجامد؛ فما إن انتهت الحلقة حتى انهالت الانتقادات عليها؛ فاتهمها بعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي بـ «الوقاحة والعنصرية والعنف والتعالي والأداء البلطجي»، وأنها مارست «فوقية وتعاملت بعنصرية في خطابها البعيد جدًّا عن الأخلاق المهنية»؛ لأنها حاولت أن تفرض رأيها على الضيف، الذي ظلّ محافظًا على هدوئه ولباقته، رغم كلّ محاولات المذيعة لاستفزازه، مما أثار أعصابها أكثر، فلجأت إلى استخدام المفاهيم النسوية، التي يركز الغرب عليها كثيرًا، وكأنّ البرغوثي يقمع ويضطهد المرأة، لكي تكسب تعاطف جمهورها بعد احتقارها لضيفها وإغلاقها أذنيها لعدم سماع إجاباته، مع ضحكات أقرب إلى أن تكون هيستيرية، وقيامها وجلوسها المتكرر على الكرسي مع حركات سيئة بيديها.

تصدّر المقطع واسم المذيعة جوليا هارتلي بروير المواضيع الأكثر تداولًا على موقع «إكس» في بريطانيا، وسط تعليقات أجمعت على إدانة المذيعة، التي كانت تقاطع الضيف وتصرخ في وجهه، وتظهر حركات غريبة، بدت «مقرفة» لكثيرين وهي تسخر من كلامه. في المقابل أشاد كثيرون بهدوء الضيف وقوة حجته.

وإذا كان مصطفى البرغوثي ظلّ على هدوئه أثناء اللقاء، إلا أنه أوضح فيما بعد، خلال حواره مع الإعلامي المصري خالد أبو بكر، خلال برنامجه «كلّ يوم» على قناة «ON» المصرية، أنّ «المذيعة أصيبت بالصدمة والعصبية؛ لأنها لم تستطع أن تحقق ما تريد خلال المداخلة، وأعتقدُ أنّ هناك عاصفة عالمية ضدها؛ والآلافُ الآن يقدّمون شكاوى ضد المحطة»، وأنّ ما اقترفتْه من صراخ ليست بمهنية، لافتًا إلى أنّ «ما أثار المذيعة وأغضبها أنها تتعامل مع إنسان يتحدث بلغة حضارية».

كشفت المقابلة في الواقع ما يجري من سنوات من انحياز الإعلام الغربي الشديد للرواية الإسرائيلية، وكان سبب انفجار المذيعة «أننا نجحنا في تقديم قوة الرواية الفلسطينية، ولأنّ الحقيقة الفلسطينية مؤلمة ولا تستطيع أن تتجاهلها وأن تلغيها، وهذا يأتي من قوة عدالة القضية الفلسطينية» كما أوضح البرغوثي، الذي خرج بثلاثة انطباعات؛ الأول عدم قدرة المذيعة على سماع الحقيقة، والثاني أنها إنسانة عنصرية، وأبدت جهلًا عميقًا عن حقوق المرأة، وكأنّ كلّ العرب والمسلمين لا يحترمون المرأة، والثالث أنها أبدت عدم مهنية مطلقة، فلا أحد يمكن أن يجري مقابلة بهذا الشكل، ويرى مصطفى البرغوثي أنّ ردة فعل المقابلة كانت رائعة على امتداد المعمورة، حيث أحسنت المذيعة في الوقت الذي كانت تظن أنها أساءت، وهو ما أكده البرغوثي بقوله: «كسبنا من خلال هذه المقابلة الرأي العام الدولي أكثر من مئات المقابلات الأخرى؛ لأنها أظهرت بوضوح مدى انحياز هذا النوع من الإعلام الغربي لإسرائيل وبشكل وقح ومفرط، وأظهرت كذلك العنصرية ضد الفلسطينيين بشكل واضح».

لقد سقطت جوليا هارتلي بروير - كما سقط الإعلام الغربي الموالي للكيان الصهيوني - ففي سبيل دفاعها عن الكيان الصهيوني في جرائمه، لم تراعِ القواعد المهنية لا في الشكل ولا في المضمون، ومنها احترام الضيف وإعطاؤه الوقت الكافي للإجابة، والإنصات لما يقوله، وإذا كان لا بد من التدخل لتوضيح أمر ما، يجب على المذيع أن يدحض الموضوع بالحجة والمعلومة، وليس بقمع الضيف والصراخ في وجهه.

أظن أنّ هذا اللقاء يشكّل وصمة عار في تاريخ المذيعة والقناة معًا ولكلّ المتعاطفين مع جرائم الكيان الصهيوني ضد الإنسانية؛ وإن كان له من إيجابية، فهو قد أظهر أنّ مثل هذه النماذج من الإعلاميين منبوذون الآن، وأنّ مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت مؤثرة جدًا، ولها قوة وسلطة ونفوذ أكثر من القنوات الموجّهة، وأنّ بفضل هذه المواقع عرفت الشعوب الغربية الحقيقة عن الوضع في فلسطين. والمفارقة أنّ البلدان العربية طوال الحقب الماضية فشلت في توصيل عدالة القضية الفلسطينية للشعوب الغربية، رغم الملايين التي تُنفق على السفارات والملحقيّات الإعلامية والثقافية الكثيرة.

زاهر المحروقي كاتب عماني مهتم بالشأن العربي ومؤلف كتاب «الطريق إلى القدس»