مشكلة الدماغ – العقل

23 يناير 2023
23 يناير 2023

هل يمكن فعلا تحسين الحالة المزاجية بدواء؟ هذا من الأسئلة الشائعة التي أواجه بها في العيادة النفسية. والسؤال يتكئ على مشكلة علمية فلسفية شائكة لم تحل بعد، وهي مشكلة ماهية الوعي. فهل الوعي والتفكير والحالة النفسية ظاهرة، أو ظواهر، منفصلة عن الجسم؟ هل هناك في الإنسان عالمان عالمُ وعيٍ داخلي نفسي وعالم خارجي يشمل فيما يشمل الجسم؟ يبدو ظاهرا لنا، على الأقل في القرن الحادي والعشرين، أن هناك انفصالا بين العالمين، فهناك "أنا" الذي في الداخل الذي يعي ويفكر ويشعر ويحلل ويتذكر، وهناك جسمي الذي أستطيع أن أعيه وأشعر به وأحلله وأتذكره والذي بطريقة ما ينتمي للعالم الخارجي رغم أنه جزء مني. الجسم رغم قربه اللاصق بالعقل والوعي إلا إنه مع هذا يبدو منفصلا عنهما. إن معرفتنا العلمية الفسيولوجية الحالية بطريقة عمل الدماغ لم تحل هذه المشكلة. ثمة في المخ أعصاب وخلايا وسوائل ومواد كيميائية ولكنّ الفحص التشريحي والمجهري لا يدلنا على الطريقة التي تُشكِّل هذه جميعها العالمَ الداخلي. بيد أننا مع هذا نعلم أيضا أن هناك تفاعلا بطريقة ما بين العالم الداخلي والعالم الخارجي، بين الوعي والجسم. البعض يرى أنهما وجهان لعملة واحدة، لكنْ ما معنى هذه المقولة أصلا، إن فارق التشبيه هنا يجعل الأمر يكاد أن يكون مختلفا تماما، فكيف ينشأ عالم داخلي وتحس به وتشعر به ويكوِّن من تكون في جانب، وفي الجانب الآخر لا يوجد إلا الأعصاب والخلايا والمواد الكيميائية؟ البعض يقارن بين الدماغ والوعي من جانب وبين الجهاز الهضمي والهضم من ناحية أخرى؛ فالدماغ وظيفته الوعي مثلما وظيفة الجهاز الهضمي الهضم. لكنْ لا يمكننا أن نسلّم بهذا، فحتى وإن كانت وظيفةُ الدماغ الوعيَ فإن الوعي لا يشبه بحال ما الهضمَ، فالهضم في تصورنا العام عمليةٌ مادية وقام بها جهازُ هضمٍ مادي، أما في حالة الدماغ فالدماغ مادة والوعي ليس بمادة. ربما يكون الأمر أن الهضم لا يستطيع أن يتكلم عن نفسه قائلا أنا لستُ الجهاز الهضمي، بينما يستطيع الوعي أن يتكلم عن نفسه قائلا أنا لست الدماغ. المقاربة الحديثة لفهم مشكلة الدماغ- العقل هذه تكمن في آلية عمل الكمبيوتر، إذ يبدو بطريقة ما أن بنية الكمبيوتر الخارجية المكونة من حديد وبلاستيك وأسلاك ومواد كيميائية تنتج بنيةً تبدو لنا أكثر ذكاء، فلكأنها أعصابُ دماغٍ تنتج عقلا. وقد تطورت هذه المقاربة مع تطور الذكاء الاصطناعي فهو يوهمك أن ليس هناك ذكاء فقط داخل آلة ما بل إن هناك وعيا أيضا.

على العموم، وأيًّا كانت الأحوال وأيًّا كانت المقاربات، فإن الدماغ والوعي يعملان بطريقة متشابكة، فالضرر الحاصل في الدماغ يمكن أي يؤدي إلى ضرر في العالم الداخلي من وعي وتذكر وشعور. والعقل بدوره يمكن أن ينتج أعمالا خارجية، فيمكن أن تتحول فكرةٌ ما في عقلك إلى حركة في يدك: إن العقل هنا يؤثر على المادة التي هي الجسم. إن تفكيرا بسيطا فيما تقدم من أفكار يجعل الإجابة على سؤالنا الاستهلالي أوضح، فيبدو أن المواد الكيميائية مثل الأدوية وأيضا كل العالم الخارجي، يمكنها أن تؤثر على ما نشعر به داخل عقولنا. نعم، وهذا مثبت بطرق علمية تجربية؛ إن الأدوية المضادة للاكتئاب تؤثر على الحالة المزاجية رغم أن الأدوية مادة والحالة المزاجية شعورٌ يدخل في نطاق العالم الداخلي، أي العقل. ورغم عدم معرفتنا الوافية بطريقة عمل الدماغ وطريقة إنتاجه لظاهرة الوعي فإننا نعرف أن الدماغ والعقل يعملان معا وأن أحدهما يؤثر على الآخر، وحين يموت الدماغ ينطفئ الوعي.

إذًا نعم، يمكن تحسين الحالة المزاجية بدواء مهما كان سبب الحالة المزاجية. لا يعني هذا غلبة المادة (التي هي الدواء هنا) على جزء من الوعي (الذي هو المزاج هنا)، بل يعني تفاعلا بينهما. إن المزاج المتدني إي الاكتئاب يمكن ان ينشأ بسبب عضوي بحت؛ يمكن لنقص مواد معينة في الدماغ أن يسبب الاكتئاب، ويمكن أيضا أن ينشأ الاكتئاب بسبب نفسي بحت، وهذا السبب النفسي من المرجح أنه يغير بدوره من المواد الكيميائية ليُحدِث الاكتئاب: إننا نعرف هذا لكننا لا نعرف آليته بعدُ.

• د. حسين العبري كاتب وطبيب نفسي