مركز مالي في مسقط
يقول بعض المهتمين بالاستثمار وبيئته إن المراكز المالية عامل مهم لاستقطاب رؤوس الأموال والخبرات المالية والاقتصادية، ويرون أنه من المهم لعُمان إقامة مركز مالي لتوفير التمويل اللازم لمشاريع القطاعين العام والخاص، ولتحقيق أهداف أخرى اقتصادية وسياسية. ويرى هؤلاء أن التطورات التي يشهدها العالم منذ أكثر من عشرين سنة أوجدت ميزات وفرصا تمكن عُمان من منافسة المراكز المالية القائمة في المنطقة والعالم. أنا هنا لا أتبنى فكرة إنشاء مركز مالي في عُمان، لكني كذلك لا أرفضها، وإنما أطرحها للتفكير فيها ومناقشتها لعل في ذلك ما يفيد.
قبل الدخول في مناقشة هذا الموضوع لا بد من توضيح المقصود بالمركز المالي وبيان أهم المراكز المالية القائمة في بعض دول العالم. يعرف المركز المالي بأنه مدينة أو منطقة في نطاق جغرافي معين تستضيف مقرات رئيسية أو فروع لمؤسسات مالية، مثل البورصات والبنوك وشركات التمويل وشركات التأمين والمؤسسات التي تقدم استشارات أو خدمات في المجالات المالية. والمراكز المالية مهيأة ببنى أساسية متطورة، بما فيها من مبان إدارية وشبكة مواصلات وشبكات اتصالات حديثة، وهي غالبا تقدم حوافز ضريبية واستثناءات قانونية لجذب المستثمرين إليها. أي أنها شبيهة بالمناطق الحرة التي تقام للمشاريع الصناعية أو لخدمات الإمداد (اللوجستيات). يعتبر حي المال والأعمال City of London في بريطانيا من أهم وأقدم المراكز المالية في العالم، وكذلك أحياء المال والأعمال في نيويورك وفرانكفورت وزيورخ وطوكيو. وفي العقود الأخيرة ظهرت مراكز مالية جديدة في هونج كونج وسنغافورة ودبي ومدن أخرى حول العالم وأصبحت تنافس، أو بالأحرى تعمل جنبا إلى جانب مع المراكز المالية التقليدية في أوروبا وأمريكا.
نعود إلى صلب الموضوع، وهو إنشاء مركز مالي في مسقط. يرى بعض العارفين بالموضوع أنه رغم تزايد وانتشار المراكز المالية حول العالم، فإنه لا خوف من التنافس بين المراكز المالية القائمة في المنطقة، لأن المنافسة ليست دائما لعبة صِفرية، أي أن المنافسة لا تؤدي بالضرورة إلى ربح لطرف وخسارة لطرف آخر، بل هي عمل يمكن أن يكون فيه الجميع رابحا. السبب في ذلك أن الخدمات المالية متنوعة، وهي في تطور مستمر، والحاجة إلى التمويل وإلى ملاذات آمنة لرؤوس الأموال متزايدة. وبالإضافة إلى ذلك فإن موقع عمان الجغرافي والمكانة والثقة التي تتمتع بها على المستوى السياسي ستجعل الكثير من أصحاب رؤوس الأموال والمستثمرين يتجهون إليها إذا توفرت البنية الأساسية والتشريعات اللازمة لذلك. ومما يجعل عمان مهيأة كذلك لإنشاء مركز مالي فيها هو توفر رأس المال البشري، المتمثل في وجود أعداد لا بأس بها من العمانيين من خريجي الجامعات في تخصصات تحتاج إليها المراكز المالية، ومنها تخصصات الاقتصاد، والمالية ونظم المعلومات والإدارة. معلوم أن التطورات السياسية في العالم، لا سيما في السنوات العشرين الأخيرة، جعلت بعض المراكز المالية التقليدية، مثل زيورخ في سويسرا، تفقد احتكار ميزة كانت تجعلها مقصدا ومستقرا آمنا لبعض رؤوس الأموال لأنها اضطرت، نتيجة لضغوط سياسية، إلى رفع السرية عن المودعين والمستثمرين وتسليم بيانات عنهم لبعض الدول ذات النفوذ. وبالإضافة إلى ذلك يرى بعض المستثمرين أن بعض المراكز المالية تسيّس التمويل، أي أنها توافق على تمويل بعض المشاريع وتمتنع عن تمويل مشاريع أخرى، سواء كانت حكومية أو خاصة، ليس على أساس الجدوى الاقتصادية ولكن على أسس أخرى تتصل بسياسات الدول وبتوجهات المستثمرين أو جنسياتهم. لا اعتراض لي على الشفافية وحق الجهات القضائية في الدول في معرفة من أين تأتي أموال المودعين وكيف تصرف، إذا كان ذلك من قبيل محاربة الفساد والظلم، لكن على شرط العدالة ومن غير محاباة لدول بعينها أو ملاحقة لأشخاص دون آخرين. وفي اعتقادي أن عمان من الدول القلائل التي ما زالت قيم العدل والأخلاق تشكل جانبا مهما في سياساتها الداخلية والخارجية. لذلك فإن إنشاء مركز مالي في عمان تتوفر فيه البنية الأساسية الحديثة والمرونة التشريعية والقانونية اللازمة سيجعل الكثير من أصحاب رؤوس الأموال والمستثمرين في المنطقة يقصدونها، سواء لإيداع مدخراتهم أو للاقتراض لتمويل مشاريعهم.
مما تجدر الإشارة إليه أن فكرة إنشاء مركز مالي في مسقط ليست جديدة، بل تمت مناقشتها من قبل، وذلك في إطار البحث المستمر في القطاعات التي يجب أن تكون لها الأولوية لتنويع الاقتصاد العماني. قبل حوالي عشرين عاما مثلا، كان البحث يدور حول كيفية تشجيع نمو قطاعات معينة، هي قطاع السياحة، أو قطاع الإمداد (اللوجستيات)، أو قطاع التعليم العالي، وكان الهدف جذب جامعات عالمية وفتحها للطلاب العمانيين وغير العمانيين. تم حينذاك أيضا طرح فكرة إنشاء مركز مالي لتشجيع استقطاب البنوك ومؤسسات التمويل ومكاتب الاستشارات المالية ذات المستوى العالمي للعمل في البلاد. وفي ذلك الإطار تمت مناقشة استقطاب إحدى الشركات المعروفة في حينها، هي شركة Merrill Lynch لتكون نواة للمركز المالي، لكن لسوء الحظ أو لحسن الحظ واجهت الشركة مشكلات وتم الاستحواذ عليها من مؤسسة أخرى. وبالإضافة إلى ذلك كانت التشريعات والإطار القانوني اللازم لتطوير القطاع المالي غير مرنة بما فيه الكفاية للسماح للبنوك ومؤسسات التمويل غير التقليدية للعمل في عمان، ومنها تلك الملتزمة بأحكام الشريعة الإسلامية. إن عدم مرونة القوانين والتشريعات المالية كانت مشكلة أخرت استفادة عمان من استقطاب مؤسسات تقدم خدمات اتخذت اتجاها متصاعدا ومتناميا في الاقتصاد العالمي.
لا أدري إن كانت فكرة إنشاء المركز المالي لا تزال مطروحة على المستوى الحكومي. إذا كان الجواب بنعم فإن هناك جوانب لا بد من مراعاتها لتنفيذ الفكرة، وأهمها الجوانب القانونية اللازمة لجذب المستثمرين، إضافة إلى موقع المركز والبنية الأساسية له. فمن الجانب التشريعي والقانوني لا بد للمركز من قانون ينظم عمله ويمكنه من المنافسة. وفي ذلك الإطار قد تكون هنا حاجة لمراجعة بعض القوانين السارية، ومنها قانون مكافحة غسل الأموال، الذي يرى البعض أنه قد تقادم ويحتاج إلى تعديل. المعروف أن كثيرا من الدول كانت قد قبلت بوضع قوانين متشددة لمكافحة غسل الأموال تحت ضغط من الدول الكبرى الأعضاء في منظمة التعاون والتنمية OECD والمجموعة المالية FATF المنبثقة منها. لكن الحقيقة هي إن الدول الكبرى كانت ولا تزال هي أقل الدول التزاما بقوانين مكافحة غسل الأموال. أما فيما يتعلق بموقع المركز المالي في مسقط، فربما من المناسب أن يكون ضمن مشروع تطوير شاطئ الخوير، وهو أحد المشاريع العمرانية الكبيرة التي أعلنت عنها الحكومة. ما يميز هذا الموقع أنه قريب من حي الوزارات وقريب من مطار مسقط الدولي، وهو ما يعني سهولة ربطه بشبكة الطرق الحديثة مع المطار وحي الوزارات وباقي مناطق مسقط. وربما سيكون الأجدى كذلك من الناحية الاقتصادية الترويج للحي المذكور لاستقطاب مستثمرين كبار إليه، إذا تقرر أن يكون المركز المالي فيه.
على أي حال، فإن إقامة أي مشروع، سواء كان مركزا ماليا أو غيره، يجب أن يراعي احتياجات البلاد التنموية، خاصة من حيث خلق فرص العمل للقادرين عليه وتحسين مستوى معيشة عموم الناس وتنويع إيرادات الدولة.
ملاحظة على الهامش، بمناسبة الحديث عن حي شاطئ الخوير، يقترح أحد اللغويين تسمية الحي المذكور «عَقْر الخوير»، قياسا على المصطلح العماني القديم، بدل الاسم المستورد Alkowair Down Town. ومن معاني العقر في معاجم اللغة العربية، وسط المدينة أو المكان الذي يحتمي به الناس في المدينة.
د. عبدالملك بن عبدالله الهنائي باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية
