مرحلة جديدة في تاريخ القضاء العماني
إن المتأمل للسياسة التشريعية العمانية، ليلحظ بوضوح أنها اتسمت -منذ بزوغ فجر النهضة المباركة- بالتدرج على النحو الذي يأخذ واقع الحال في الحسبان ويراعي مصالح العباد والبلاد، استهداء بالمنهج الرباني القويم وما جاءت به الشريعة الإسلاميـة الغراء من تدرج في الأحكام. يقول الحق تبارك وتعالى: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا» المائدة (3).
كما تؤمن الممارسة العمانية بالتخصص طريقًا للإجادة وتحقيقًا للعدالة، وجاء العهد السعيد الزاخر لمولانا جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -أيده الله- بمرحلة جديدة من مراحل البناء عنوانها المراجعة والتطوير؛ بهدف الوصول إلى الأنموذج الأمثل بالتشريعات عامة، وما يتصل بالعدالة على وجه الخصوص، وعلى النحو الذي ينسجم ورؤية عمان ٢٠٤٠ ويحقق أهدافها ويلبي متطلباتها، ووفقا لما أكد عليه النظام الأساسي للدولة من التصميم على مواصلة الجهود لصياغة مستقبل أفضل يتسم بمزيد من الإنجازات التي تعود بالخير على الوطن والمواطنين.
ولما كانت رسالة القضاء من أجلّ الرسالات؛ لاتصالها بحقوق الناس وحرياتهم، وحماية أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، فقد حظيت بالاهتمام السامي من لدن مولانا عاهل البلاد المفدى -حفظه الله ورعاه- فترأس -نصره الله- المجلس الأعلى للقضاء كأحد مظاهر العناية السامية بالعدالة، وليكون -أيده الله- الضامن لأن تقوم السلطة القضائية بواجبها على الوجه الأمثل، وحق على منتسبي القضاء كافة -بأركانه الثلاثة- أن يكونوا على مستوى المسؤولية فيحملوا الأمانة ويؤدوا الرسالة كما ينبغي لها أن تؤدى.
هذا ولا شك أن يوم الخميس السادس عشر من ذي القعدة لعام 1443هـ والموافق له السادس عشر من يونيو لعام2022۲م سيكون أحد الأيام الخالدة في ذاكرة التاريخ العماني عامة وتاريخ القضاء العماني بشكل خاص.
إن المرسوم السلطاني رقم (35/2022) بشأن تنظيم شؤون القضاء أسس لمرحلة جديدة في تاريخ القضاء العماني عنوانها التوحيد والتكامل والتطوير والفاعلية في ظل الاستقلال التام للعمل القضائي والمحافظة على الحيدة والنزاهة، في نقلة نوعية تجمع مؤسسات القضاء في كيان واحد ينتظم منتسبوه صفًا واحدًا كالبنيان المرصوص، ضمن منهجية عمل واحدة توحّد الرقابة وتختصر الإجراءات، بعد أن نهضت مؤسسات القضاء الثلاث (الادعاء العام ـ القضاء العادي ـ القضاء الإداري) كل مؤسسة على حدة حتى اشتد عودها واكتمل بنيانها وأصبحت مهيأة لأن تكون صرحًا واحدًا للعدالة.
فالادعاء العام في سبعينيات القرن الماضي نشأ بمستوى مكتب ومقره في محافظة مسقط، ومع مرور الوقت وزيادة حجم العمل وتطور أدواته دعت الحاجة إلى تطوير هذا المكتب فأصبح قسما محدودًا، وتوالى التطوير وفق مقتضيات الحال بأن رفع مستواه إلى إدارة ثم إدارة عامة، وفي عام 1996م ورد النص في المادة (64) من النظام الأساسي للدولة ـ السابق ـ على أن يتولى الادعاء العام الدعوى العمومية باسم المجتمع، ثم في عام 1999م صدر قانون الادعاء العام رقم (92/99) فأصبح الادعاء العام جهازًا مستقلاً يتولى الدعوى العمومية ويشرف على شؤون الضبط القضائي ويسهر على تطبيق القوانين الجزائية، فانتشرت إدارات الادعاء العام في محافظات سلطنة عمان كافة، وتم رفده بالكوادر القضائية والإدارية للقيام بواجبات الوظيفة والاختصاصات المناطة به. وفي عام ٢٠١١م صدر المرسوم السلطاني رقم (25/ 2011) باستقلال الادعاء العام إداريا وماليا، واستمر الادعاء العام بممارسة اختصاصاته بكل حياد واستقلال، فاكتمل كيانه، واستقامت أركانه، ووظف التقنية في أعماله، ومارس جميع اختصاصاته وفق قانون الادعاء العام والقوانين الأخرى ذات الصلة بعمل الادعاء العام. وبصدور النظام الأساسي للدولة بالمرسوم السلطاني رقم (6/ 2021) أكدت المادة (86) منه على أن الادعاء العام جزء من السلطة القضائية، يتولى الدعوى العمومية باسم المجتمع، ويشرف على شؤون الضبط القضائي ويسهر على تطبيق القوانين الجزائية وتنفيذ الأحكام.
إن رؤية عمان مستشرفة المستقبل بموضوعية، قد أولت أهمية خاصة لقضايا الحوكمة وموضوعاتها، وتفعيل الرقابة والاستخدام الفاعل للموارد الوطنية وتحقيق مبادئ النزاهة والعدالة والشفافية والمحاسبة والمساءلة، بما يعزز الثقة في الاقتصاد الوطني ويدعم تنافسية القطاعات في ظل سيادة القانون، فجعلت التشريع والقضاء والرقابة إحدى أولوياتها؛ لتحقيق منظومة تشريعية تشاركية، ونظام قضائي مستقل متخصص وناجز، ورقابة فاعلة وشفافة، مع التكامل بين أدوار المؤسسات.
ولئن كان المفهوم الصائب لمبدأ الفصل بين السلطات لا يعني فصلاً جامدًا تنقطع فيه كل سلطة عن الأخرى، وإنما يعني أن تمارس كل سلطة اختصاصها بالتكامل والتعاون مع السلطات الأخرى على النحو الذي يحقق المصلحة العامة للبلاد والتي هي الهدف الأسمى للجميع ومبتغاهم، إذ أن سلطة الدولة هي وحدة واحدة وإنما يجري التقسيم على وظائفها، فإن كان هذا هو الذي ينبغي أن يكون عليه العمل بين السلطات في البلاد، فلا ريب أن هذا التكامل والتعاون والانسجام يكون آكد ما يكون عليه بين أركان السلطة الواحدة، لا سيما السلطة القضائية التي يكمل بعضها عمل بعض.
لذلك فإن المرسوم السلطاني رقم (35/2022) جاء مكرسًا لهذا المفهوم ومؤسسًا لمرحلة جديدة تجمع أركان السلطة القضائية في كيان واحد على النحو الذي يرتقي بعملها جميعا وفق منهجية واحدة تتوحد فيها آليات العمل وتختصر فيها الإجراءات ويشد بعضها إزر بعض، تحت مظلة المجلس الأعلى للقضاء الذي يرأسه جلالة سلطان البلاد المفدى ـ نصره الله ـ يرسم للقضاء سياسته العامة، ويكون للمجلس أمينًا عامًا يسيّر شؤونه، ويعاونه عدد من الأمناء العامين المساعدين؛ الأمر الذي سيوحد الإجراءات التي تسري على منتسبي الجهات القضائية ويذكي التنافس بينهم على النحو الذي يرتقي بالأداء.
ومما لا شك فيه أيضا أن المرسوم السلطاني السامي يكرس الاستقلال التام في الأعمال القضائية لمرفق القضاء، فإنشاء أمانة عامة للمجلس الأعلى للقضاء ـ ينقل إليها موظفو المرفق ـ تقوم على تقديم الدعم المالي والإداري لمرفق القضاء الذي يكون له الفصل فيما يعرض عليه من شكاوى وأقضية، في موضوعية كاملة، الأمر الذي شدد عليه النظام الأساسي للدولة ويكفله المجلس الأعلى للقضاء، فتكون للقضاء وحده كلمة الفصل في المسائل القضائية. وهو ما يمكّن القائمين على القضاء من تكريس الجهد والوقت للعمل القضائي.
كما أوجد المرسوم إدارة عامة للتفتيش، تختص بالتفتيش على أعمال القضاة وأعضاء الادعاء العام؛ الأمر الذي سيوحّد ضوابط التفتيش وآلياته في الجهات الثلاث، وسينعكس ذلك إيجابا على الأداء من خلال اختيار أفضل النماذج للتفتيش القضائي إلى جانب اختيار أنسب العناصر للقيام به.
كما أعاد المرسوم تشكيل المجلس الأعلى للقضاء بما يتفق والتوجه الحديث والوظائف المستحدثة وتحقيق الأهداف المرجوة.
إن صدور هذا المرسوم (35/2022) بشأن تنظيم إدارة شؤون القضاء سيؤدي بلا شك إلى تسريع وتيرة العمل القضائي، الذي ـ بكل تأكيد ـ سيكون له بالغ الأثر في تحقيق العدالة الناجزة وإيصال الحقوق إلى أصحابها في أقرب الآجال، الأمر الذي ينشر العدل وينمي الاقتصاد الوطني، وذلك من خلال تفرّغ الكادر القضائي للقيام بواجب رسالة القضاء ورفع راية العدل وعدم الانشغال بغير ذلك من الأعمال الإدارية والمالية في ظل إقرار مركزية الشؤون الإدارية والمالية خدمة للصالح العام ومصلحة العمل القضائي، مع الأخذ في الاعتبار تحقيق المرونة والتبسيط في الأعمال الإدارية والمالية عن طريق كفالة التفويض الإداري الذي يحفظ سرعة الإجراء وفاعليته.
من جهة أخرى، فإن هذا التقسيم الذي جاء به المرسوم السلطاني السامي يكرّس التخصص على المستويات القضائية والإدارية والمالية على النحو الذي يضمن الجودة في الأداء، باعتبار أن التخصص ـ لا سيما في العمل القضائي ـ هو من أهم عوامل الإجادة وصولاً إلى تحقيق العدالة التي ينشدها الجميع لتحقق الاستقرار الاجتماعي وتعزز النمو الاقتصادي.
إن المرسوم السلطاني السامي جاء ترجمة لرؤية عمان 2040 وأهدافها الرامية إلى تطوير نظام التقاضي على النحو الذي يحقق الجودة العالية وسرعة الإنجاز وفق أعلى معايير العدالة والنزاهة والاستقلال، في ظل التكامل والتعاون التام بين أركان القضاء في منظومة عدلية واحدة تحرص على إعلاء كلمة العدل وتوظيف تقنيات المستقبل، مواكبة للتطورات الشاملة التي تشهدها البلاد في مختلف المجالات بما يحقق الخير والرفعة والنماء للبلاد والعباد في ظل القيادة الحكيمة لمولانا جلالة السلطان عاهل البلاد المفدى ـ أيَّده الله.
ومما تجدر الإشارة إليه، أن صدور هذا المرسوم بعد أكثر من عقدين من الزمان منذ صدور قانون السلطة القضائية وقانون المجلس الأعلى للقضاء وقانون الادعاء العام وقانون محكمة القضاء الإداري، سيكون سببًا جوهريًا للتطوير ومضاعفة الجهد والارتقاء بمستوى الأداء، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم، كما أن هذا المرسوم يعكس الاهتمام السامي لمولانا جلالة السلطان المعظم ـ حفظه الله ـ والحكومة بالسلطة القضائية في البلاد.
والله تعالى نسأل العون والسداد للقيام برسالة القضاء عامة والادعاء العام خاصة على الوجه الأكمل.
نصر بن خميس الصواعي المـدعــي الــعــام
