مدخلات الحداثة المؤتلفة في البحث والتطوير

27 فبراير 2024
27 فبراير 2024

تشير نتائج أبحاث اقتصاديات العلوم والتكنولوجيا إلى أن المزيد من الشركات الابتكارية الرائدة على مستوى العالم قد أصبحت تستهدف الكفاءات الأكاديمية لقيادة أنشطة البحث والتطوير، وشهدت السنوات الأخيرة التحاق عدد متزايد من حملة الدكتوراة أو الباحثين الذين قضوا سنوات في الأوساط الأكاديمية بالقطاع الصناعي وريادة الأعمال، وركزت بعض هذه الشركات على توظيف علماء وأكاديميين لديهم سجلٌ قوي من المنشورات العلمية، والنتاجات المعرفية، بل وشجعتهم على الاستمرار في النشر العلمي، وهذه التوجهات تفرض الكثير من التساؤلات، ففي نهاية المطاف، يمكن للشركات أن تعمل على تعظيم الربح بالتركيز على التطوير التكنولوجي الموجه نحو تحسين منتجاتها، وربما الاستعانة بخبرات واستشارات خارجية متخصصة في البحوث التطبيقية، إذن ما الذي يحفّز هذه الشركات على توظيف الأكاديميين المجيدين؟ وكيف جاء قرار استهداف العلماء المتمكنين من الجوانب الأكاديمية التي هي محور عمل وحدات البحث والتطوير؟ ولماذا لم تكتفِ الشركات بالمحاولات الابتكارية للمهندسين الناشئين وشركات الاستشارات التكنولوجية؟

في البدء لا بدّ من الإشارة إلى القاعدة الذهبية التي مفادها أن «ابتكار أي شركة يعتمد على قدرة موظفي وحدات البحث والتطوير على توليد المعرفة التقنية الداعمة لخط الإنتاج، وبنفس القدر على توفر الكفاءة المطلوبة لاستيعاب وتطبيق المعرفة المنتجة خارج أجندات هذه الوحدات»، وهذا يضعنا أمام حقيقة أن شركات الابتكار تنتقي موظفيها بناءً على تأثيرهم المباشر على الربحية، وهذا ينطبق على المطورين والمهندسين الذين يمتلكون مهارات تقنية بجانب الشغف والحماس والموهبة، ولكن الطبيعة الدقيقة للقيمة المضافة للعلماء والأكاديميين معقدة ومتعددة الأوجه، ففي العمق يأتي موضوع الفهم الواسع جدًا للمبادئ العلمية والنظرية المتعلقة بخط الإنتاج، وهذا ما يضفي أهمية نوعية لوجود الأكاديميين في وحدات البحث والتطوير، فبإمكانهم توظيف خبراتهم ومعارفهم النظرية والتحليلية لأجل تحقيق مستويات عالية من الإنتاجية والإبداع دون الحاجة لهدر الوقت في حلقات مفرغة من «التجريب والخطأ»، وتكرار العديد من المحاولات التي تصطدم في أغلب الأوقات بالإخفاق، مع الأخذ في الحسبان أن هذا الأثر ليس إيجابيًا بشكل مطلق، فوجود الأكاديميين المخضرمين قد يحد من آفاق الابتكار أحيانًا بسبب إطلاق توقعاتٍ مسبقة بفشل المحاولات بناءً على المعطيات النظرية السائدة، في حين أن الاستمرار في المحاولات التطويرية قد تنتهي بنتائج متميزة تضمن السبق والتقدم غير المسبوق، فهي قضية ذات وجهين.

أما الميزة الثانية لوجود الأكاديميين في وحدات البحث والتطوير فمصدرها النشر العلمي الذي يسهم بشكل كبير في استقطاب العقول الابتكارية المماثلة الأخرى إلى إثراء المعرفة التقنية أو العلمية التي تم إنتاجها من قبل فريق البحث والتطوير، وهذا من شأنه رفع القدرة الاستيعابية للشركة من حيث توطين وتطبيق المعارف الخارجية بجانب المعرفة التي يتم إنتاجها داخليًا، وفي ذات الوقت اكتساب المهارات الضمنية التي يمتلكها العالم أو الأكاديمي الذي يعمل بشكل حثيث مع المطورين والمهندسين وموظفي خط الإنتاج، مما يسمح بتدفق المعارف بعدة أشكال، ويوفر للشركة الكثير من الجهد والمال في توفير دورات تدريبية أو فرص للدراسات العليا، وهذه الميزة أيضًا لا تخلو من التحديات، إذ لا يمكن الجزم بأن جميع شركات الابتكار تحبذ النشر العلمي ومشاركة مخرجات جهودها التطويرية والابتكارية، فما يحدث داخل جدران وحدات البحث والتطوير يختلف بشكل جذري عن البحوث التي يجريها الأكاديميون في مختبرات الجامعات والمراكز البحثية، كما أن هناك حقيقة لا يمكن تجاهلها وهي أن النشر العلمي يعد ممارسة ذات عوائد سخية في الأوساط الأكاديمية من حيث الترقّي في السلّم المهني، واكتساب الثقل العلمي والسمعة المهنية اللامعة، ولكن في القطاع الصناعي لا يمثّل النشر العلمي سوى نشاطٍ زائدٍ يستهلك الوقت الثمين لفريق البحث والتطوير.

وهذا يقودنا إلى السؤال التالي وهو: ماذا يجني الأكاديميون من الانخراط في القطاع الصناعي؟ وما دوافعهم للخروج من برجهم العاجي من مختبراتهم، وقاعات المحاضرات للعمل داخل وحدات البحث والتطوير؟ في الواقع يقبل الأكاديميون العمل خارج مؤسسات التعليم العالي حينما تكون الوظائف الأكاديمية بمثابة بدائل متواضعة عن العمل في شركات ابتكار رائدة وطموحة وذات سمعة بارزة، فالعلماء ذوو القدرات الأكاديمية العالية يبحثون دائمًا عن بيئة تفوق ما يمكنهم توقعه في البيئات الأكاديمية، فالحوافز المالية لا تأتي في المقدمة دائمًا؛ لأن الدافع الجوهري للأكاديمي الذي يلعب دورًا مهمًا هنا هو الحماس المتأصل للبحث العلمي والتطوير التكنولوجي والإسهام المعرفي، فالقيود التي تنشأ في البيئات الأكاديمية تحدّ الباحثين من الوصول بجهودهم إلى مستوى طموحهم مثل: نقص التمويل، وقلة الفنيين المهرة، وعندما يجد هذا الأكاديمي فرصة للتطوير التقني في وحدات البحث والتطوير من دون القيود التي تفرضها عليه اشتراطات منح البحوث المقدمة من جامعاتهم أو من الجهات المانحة الأخرى، فإن النجاح في تطوير نموذج

أو تقنية يكون بمثابة المكافأة الحقيقية من إجراء البحوث التطبيقية والأساسية، وبذلك يصبح القطاع الصناعي أكثر قيمة من القطاع الأكاديمي من منظور إتاحة مجال أرحب لممارسة «الفضول العلمي».

هذه الأطروحات تبعث في الأذهان العديد من الآراء حول المهن العلمية، وتفضيلات العلماء والأكاديميين والمهندسين، إذ تُعد المعرفة العلمية مدخلًا ثمينًا لتطوير التقنيات الجديدة والمنتجات المنافسة، ولذلك تعمد شركات الابتكار إلى الاستثمار بكثافة في أنشطة البحث والتطوير، ولكن الوزن النسبي الممنوح للأبحاث قد أظهر انخفاضًا في معظم التقنيات والصناعات الحيوية بما فيها صناعات العقاقير واللقاحات، إذ لا تزال وحدات البحث والتطوير تسعى لزيادة منشوراتها العلمية في المجلات الأكاديمية المحكمة كشهادة الجودة لمنتجاتها، وكإثبات لتفوقها في استقطاب ألمع العقول وأقوى الخبرات، على الرغم من أن أنشطة النشر العلمي قد تعيق تسجيل براءات الاختراع لبعض الابتكارات، وهذا ما يخلق نوعًا من التداخل بين المهام الوظيفية الأصيلة لوحدات البحث والتطوير من جهة، ومراكز التميز البحثي في مؤسسات التعليم العالي من جهة أخرى، ومن المفارقات أن المراكز البحثية وكراسي الأستاذية في المقابل تسعى لزيادة إنجازاتها في إنتاج الملكية الفكرية الصناعية بشتى أشكالها، وهذا يستوجب الكثير من التمعن والفهم لسيكولوجية منتسبي المهن العلمية، وكذلك دراسة الجوانب المعقدة والخفية لتفضيلات العلماء والأكاديميين في أماكن العمل، ومدى ارتباطها بالوعي المتنامي لشركات الابتكار بأهمية وضع استراتيجية مكثفة لتطوير الأعمال، وتصميم أجندة الأبحاث التطبيقية من منطلق أن رأس المال البشري هو عنصر أساسي في التطوير والابتكار التكنولوجي، ونقل المعرفة الخارجية إلى المخزون المعرفي والتقني للشركة، وهي مهمة ليست سهلة، فالمعارف الخارجية غالبًا ما تكون غير متوافقة مع الخبرات والقدرات واللغة والثقافة الداخلية؛ لأن المعرفة تكون ملازمة للسياق الذي تم تطويرها فيه لأول مرة، وهذا يجعل من عملية نقلها لداخل وحدات البحث والتطوير وتوطينها مكلفًا بشكل كبير.

تعالوا نقترب أكثر من تأثير الأكاديميين داخل شركات الابتكار، نجد أن العلماء والأكاديميين يكرسون وقتهم لمسارين متكاملين وهما إما أجندة أكاديمية تمثل البحث، وأجندة أكثر تطبيقية ترتبط بالتطوير، وعن طريق المسار الأول يتم إنتاج الأوراق العلمية، والبقاء على اتصال حيوي بالمجتمع الأكاديمي والعلمي، في حين يؤدي المسار الآخر إلى نتائج ومخرجات تكنولوجية، مثل براءات الاختراع وحقوق الملكية الفكرية، والتي تعود بالنفع على الشركة بشكل مباشر، ومن هذا الدور المزدوج يكتسب وجود الأكاديميين في وحدات البحث والتطوير سمة الحداثة المؤتلفة مع أدوارهم التقليدية، وذلك عبر ممارسات بناء القدرة الاستيعابية للشركات، وتفاعلها مع المعرفة الداخلية والمعارف الخارجية في سياقات مختلفة، فأنشطة البحث والتطوير هي في صميم قدرات ومهارات الأكاديميين، والقدرات المطلوبة لإنتاج معرفة جديدة تختلف كليًا عن تلك اللازمة لاستيعاب وتطبيق المعرفة الموجودة في المؤسسة، ولذلك فإن القيمة الحقيقية لوجود الأكاديميين تنبع من إسهامهم في توجيه قرارات الشركة بشأن الاستثمار في العلوم وتمويل المحاولات الابتكارية، كونها قرارات استراتيجية متعددة الأبعاد، ولها امتدادها الخارجي المتعلق بارتباط الشركة بالمجتمع العلمي والأوساط الأكاديمية، وبذلك فإن العلماء والأكاديميين هنا يتكبدون تكلفة الفرصة البديلة عند الانضمام إلى القطاع الخاص والتي من المرجح أن ترتبط بشكل إيجابي بقدراتهم الأكاديمية، مع إعادة تصميم الأدوار والمهام، والأخذ في الاعتبار أن القرارات الحاسمة في الاستثمار يجب أن تؤخذ من منظور إداري واستراتيجي بحت، ومن منطلق الإدراك الكامل بأن منتسبي القطاع الأكاديمي والبحثي لا يتسمون بدرجة كافية من مهارات تقدير عوائد الاستثمار قياسًا على المخاطر المحتملة، على الرغم من إمكانياتهم المعرفية الهائلة التي تعد من أهم عوامل تمكين البحث والتطوير والابتكار.