متشابهون لكن مختلفون

27 مارس 2023
27 مارس 2023

ذكّرني صديقٌ بفكرة سابقة لي عن الحب كانت قد أطلّتْ برأسها في إحدى القصص القصيرة المعدودة التي كتبتها منذ آماد: إن كنتَ عرفتَ الحب من قبل في حياتك وشعرت بأنك تحب من أعماق قلبك شخصًا ما وليكنْ حبًا كالحب الذي يحدث بين المرأة والرجل وأدركتَ أن هذا المحبوب هو الشخص المناسب لك، فماذا كان سيحدث لو أنك وُلِدتَ قبل ولادتك بخمسين سنة مثلًا أو بعد خمسين سنة؟ وماذا سيحدث لو أنك ولدت في ذات يوم ولادتك لكنك ولدت في مكان آخر، في دولة أخرى أو قارة مختلفة؟ والفكرة التي كنت أرنو إليها من وراء ذلك السؤال هي: أن الحب قد لا يكون حقيقيًّا بعد كل شيء أو لا يكون كما الصورة التي رسّبتها الكتابات والأفلام الرومانسية في أذهاننا، أو لو كان حقيقيًّا فإنه لا يعدو أن يكون نتاج ملابسات ومصادفات وأقدار، والدليل في رأيي آنذاك أنه لو عشتَ قبل خمسين سنة فإنك ستحب شخصًا آخر، ولو عشت بعد خمسين سنة فإنك ستحب شخصًا آخر، ولو عشت في مكان آخر ستحب شخصًا آخر، وهذا صحيح إلى حد كبير على الأقل مع الذين هم مهيأون للوقوع في الحب؛ فالوقوع في الحب لا يكون مع شخص بعينه، بل إن هناك مجموعة من الأشخاص القابلين أن تحبهم وإلا ما حدث وأن أحببتَ مع تغير الزمان والمكان وتبدل الأشخاص من حولك! وأقوى من ذلك الدليل على الفكرة أنك في حياتك هذه القصيرة وفي مكانك الجغرافي المحدود على هذه الأرض يحدث أن تحب أكثر من مرة إما في الوقت نفسه ودعنا نستبعد هذا الاحتمال الصعب معنويًّا وأخلاقيًّا، أو أن تحب كل فترة وأخرى شخصًا مختلفًا! ثمة قدْر من التوافق النفسي والعاطفي يحدث مع أشخاص كثر يجعلك قادرًا بوعي منك أو بلا وعي تتعلق بهم، ليس هناك شخص واحد أوحد هو بعينه لا غيره مناسب لك.

وكان الصديق قد فتح هذا النقاش ليقول لي إن هذا تسطيح للحب وقلة فهم له؛ فكل شيء، حسب هذه الفكرة، يساوي كل شيء، البرتقال كالتفاح كالإجاص كالبطيخ! فالفكرة تختزل الحب بل تختزل الكائن ككل في أجسام وهرمونات وقوانين نفسية محدودة، فلكأن الإنسان مجبور أن يأخذ بالحد الأدنى من الأحاسيس، ولكأن الإنسان هو الإنسان ولا فرق بين امرئ وآخر. وبدايةً فالافتراض ذاته حسبما قال صديقي، مستحيل؛ فحين ينشأ إنسان في زمان مختلف أو في مكان مختلف فهو بالضرورة إنسان مختلف؛ فالتفاصيل التي تصنعه هناك ليست كالتفاصيل التي تصنعه هنا، لذا فمن ينشأ في مدينة مختلفة أو في عصر مختلف سابق أو لاحق لا يمكن إلا أن يكون مختلفا، وعليه فإن وقع في حب من هو في عصره الزماني ومكانه الجغرافي فهذا لا يدل على أنه قابل للوقوع في الحب مع أكثر من شخص؛ فمع أننا متشابهون إلا أننا مختلفون أيضا وقد يجعل التشابه منا قادرين على التفاهم والتعايش والتعامل معًا لكن خصائصنا المميزة هي التي تكوِّننا وتصنعنا وهي التي تجعلنا نحب كذلك ونغرم بشخص بعينه؛ فالتشابه ربما يشيع فينا الإنسانية التي تشكل ما يمكن أن يقال عنه منصة الانطلاق ليس إلّا، لكنّ الاختلاف هو الذي يحدد هويّاتنا الفردية ومن نكون حقيقة؛ فالبشر ليسوا قطعانا من الخراف تتشابه معًا وتحب ما يتصادف أن يكون أمامها لتشبع غرائزها بل هم أعلى درجة وأسمى بوجود الخصائص النفسية الدقيقة التي ترفعهم عن مستوى البهائم والحيوانات.

ومع أنني أضحيت مع الأيام، منذ كتابة تلك القصة، مقتنعًا بكلامه إلا أنني جادلته لأبين له ما يمكن أن تنطوي عليه فكرة التشابه من عزاء وراحة للإنسان؛ فلو أحببتَ شخصًا ما ولم يبادلك الحب لسبب أو لآخر وهذا ما نراه يحدث من حوالينا ونعيشه طوال الوقت، أو لو أحببتَ فمات من تحب فجأة أو صيَّرته الأقدار بعيدا عنك، فماذا عليك أن تفعل؟ هل توقف حياتك وتظل مشلولًا بنفور المحبوب منك أو فراقه القدري عنك؟ إن من أحببتَه لم يكن خبط عشواء بل توافق على مستويات كثيرة معك، فالآن ماذا يجب أن تفعل وقد شاءت الأقدار أن تُحرَم من هذا المحبوب؟ سيكون محكومًا عليك أن تعيش في تعاسة وبؤس، في حين أنك لو خفّضتَ من عتبة الحب لديك فإنك لا شك ستجد من يخلف المحبوب في حبك له. ومع أنني ما أزال، ربما بحكم طبيعة عملي، أميل إلى تغليب أن يكون المرء سعيدا فإن الصديق المسلح بأدوات ذهنية مثقَّفة كثيرة، ألقى برأيه قائلًا إن هذا بالضبط ما نفترق فيه؛ فليست الحياة مكانا للسعادة وإنما هي محفوفة بالآلام والبؤس والفراق والبكاء والحزن، وإن قيادة خطمها في اتجاه السعادة لهو مما ابتُليتْ به المجتمعات من نكسة! ثم إن عيش البؤس والفراق والنكبات لهو مما يجعل من الإنسان إنسانا ويفرّقه عن الكائنات الأخرى من حوله، وإنما خوف الإنسان من هذه التعاسة الطبيعية والمتوقعة هو ما يجعله هيّابًا وغير قادر على المجازفة، فيكون غير قادر على الحياة بحق!