ما تكشفه هزيمة بولسونارو عن قصور الشعبوية
ترجمة: أحمد شافعي -
في الوقت الذي كانت تقترب فيه انتخابات الإعادة الرئاسية الخطيرة بين جاير بولسونارو ـ الرئيس القائم المنتمي إلى أقصى اليمين ـ ولويز إناسيو لولا دا سيلفا، منافسه اليساري، ظل المحللون السياسيون البرازيليون يلحون على سؤالين كبيرين. الأول منهما بسيط للغاية: من الذي سيفوز؟ والثاني أشد خطورة: هل سيترك الرئيس القائم السلطة في حالة خسارته؟
عُرفت إجابة السؤال الأول في وقت متأخر من ليل الأحد الماضي، إذ استطاع لولا دا سيلفا أن يفوز بوضوح ـ وإن بهامش بسيط ـ على بولسونارو، بـ51 إلى 49% من الأصوات.
فتحول الاهتمام كله إلى السؤال الثاني. ولقد كان بولسونارو على مدار وقته كله في السلطة قد منح الجيش دورا سياسيا أكبر، مثنيا على الدكتاتورية العسكرية التي حكمت البرازيل من 1964 إلى 1985 ومعيِّنا جنرالات في مناصب رفيعة بحكومته. وفي الشهور الأخيرة، انتقد بشدة النظام الانتخابي في البلد، زاعما أنه معيب. وبدت مؤشرات كثيرة تدل على أنه قد يحذو حذو دونالد ترامب ويحاول البقاء في السلطة برغم خسارة الانتخابات.
ألقى لولا خطاب النصر. لزم بولسونارو الصمت. دعته المحكمة العليا إلى الاعتراف بنتيجة الانتخابات. وبقي بولسونارو ملتزما الصمت. اعتراف بعض حلفائه بهزيمته. وبقي بولسونارو ملتزما الصمت. وأخيرا وصلت الإثارة منتهاها في أصيل يوم الثلاثاء. فقد ظهر بولسوناروا، منكمشا، أمام الصحافة في مقره الرسمي بالعاصمة برازيليا. محاطا بالمساعدين من الجانبين تلا بيانا مقتضبا: «طالما قيل عني إنني مناهض للديمقراطية، لكنني، خلافا لمن يتهمونني بذلك، طالما لعبت وفقا للقواعد» وقال «بوصفي رئيسا وبوصفي مواطنا، سوف أواصل الالتزام بدستورنا». وفي غضون دقيقتين غاب الرئيس ـ المتعطش دائما للانتباه ـ عن الأنظار.
برغم أن بولسونارو لم يعترف بالهزيمة ولم يهنئ لولا، كان المعنى واضحا. وهو أنه ـ خلافا لترامب ـ لن يحاول البقاء في السلطة. وسرعان ما أكد رئيس أركانه أن «الرئيس بولسونارو فوضني... لبدء إجراءات عملية الانتقال [أي انتقال السلطة]».
لكن فترة تسليم السلطة سوف تظل مشحونة. فلا يزال أنصار بولسونارو الأشد تأييدا له يتظاهرون اعتراضا على نتيجة الانتخابات. بل إن البعض يدعون الجيش إلى التدخل. ومثلما قال لي زميلي فيليب كامبانتي الأستاذ بمدرسة جون هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة فإن البلد سوف يمر بيوم كالسادس من يناير [حين هاجم أنصار ترامب الكونجرس] «لكن على مستوى مخفض وبالسرعة البطيئة». لكن احتمالات وقوع انقلاب برغم التحريض على ذلك تضاءلت كثيرا حسبما أكد كامبانتي. يمثل عدم تشبث بولسونارو المرجح بالسلطة لحظة مهمة في الصراع الطويل بين الديمقراطيين والديماجوجيين. ومثلما يتبين من حالة البرازيل فإنه حتى البلاد الديمقراطية التي تنتخب زعماء عميقي العداء للديمقراطية قد تبدي قوة كافية لمنعهم من الاستيلاء على السلطة. وهو ما يجب أن يبث الأمل في الشعوب المناضلة من أجل الحفاظ على مؤسساتها الديمقراطية في مواجهة الطغاة في شتى أرجاء العالم. في الوقت نفسه، ليست البرازيل إلا مؤشرا على أن خطر الشعبويين الاستبداديين قائم وباق. فقد فاز بولسونارو بقرابة نصف الشعب، وقد يرجع يوما مثلما رجع الذي يحل محله الآن. مع صعود الشعبويين وبروزهم خلال العقد الماضي، لم يتضح كم سيطول ذلك الاتجاه. افترض بعض المعلقين أن حكمهم سرعان ما سينهار تحت ثقل تناقضاتهم. وذهب آخرون إلى أن الحكومات الشعبوية أثبتت من قبل قدرة كبيرة على الاستمرار، وذلك جزئيا لأن الكثير منهم نجح في تركيز السلطة في أيديهم. ولكن مع تقدم أولئك الشعبيين إلى الانتخابات مرة أخرى، فإن نتاجات تلك المنافسات دليل قد يحل هذا النزاع.
ظهر أول وأكبر أسباب التفاؤل عندما أوضح انتصار جو بايدن على ترامب في 2020 أن إخراج شعبوي استبدادي من السلطة أمر ممكن من خلال صندوق الاقتراع-حتى إذ فعل كل ما في وسعه للبقاء في مكانه. والآن وقد كرر لولا دا سيلفا مأثرة بايدن في رابع أضخم بلد ديمقراطي في العالم فقد ترسخت الحجة.
بالنظر إليهما مجتمعتين، تكشف هزيمتا ترامب وبولسونارو السبب الذي يجعل من الصعب على كثير من الشعبويين أن يحافظوا على شعبيتهم ويفوزا في انتخابات ثانية. فالشعبويون عندما يفوزون بالنفوذ للمرة الأولى، وهم في المعارضة، فإنهم عادة ما يجمعون بين الافتقار إلى سجل حكومي ذي شأن وبين الوعد بانفصال جذري عن الوضع القائم. فيتيح لهم هذا أن يهاجموا عيوب النظام السياسي وسوءاته، سواء أكانت حقيقية أم موهومة. ومن ثم يستطيعون تقديم أنفسهم بوصفهم الناطقين بالحق الذين «سيطردون الأفاقين» ويخدمون المواطنين العاديين من خلال رفع مستويات المعيشة على سبيل المثال.
حتى افتقارهم إلى التأييد من داخل المؤسسات الأساسية والحركات السياسية يمكن أن يكون نافعا للشعبويين، فذلك في ما يبدو يكون شهادة لهم على صدقهم. وصعود ترامب مثال جيد على هذا. لقد دأبت استطلاعات الرأي على إظهار أن أغلب الأمريكيين كانوا يعترضون على التعليقات المشينة التي كانت تصدر عنه في حق النساء والمهاجرين في 2015 و2016، ولكن نظرا لأن استنكار تلك الإهانات كان يأتي من ساسة ليسوا شخصيا ذوي شعبية كبيرة، فقد كان الاستنكار نفسه يبرز انفصال ترامب عن المؤسسة السياسية.حينما يفوز الشعبويون بالسلطة، يبدأون في فقدان وضعية الخارجين، وتتضاءل ميزتهم. قبل وصولهم إلى السلطة، يكون لدى الشعبويين حافز على الإفراط في بذل الوعود. ثم لا يكادون يصبحون في الحكم حتى يستحيل عليهم الوفاء بالوعود، ولأنهم يفتقرون إلى الخبرة، فإن كثيرا من الشعبويين يضعفون موقفهم بارتكاب أخطاء يمكن تفاديها. فقد يصعب عليهم امتلاك أبسط الكفاءات، ويسيئون إدارة حالات الطوارئ غير المتوقعة مثل الوباء أو يخفقون في التعامل معها.
والشعبويون يزعمون أنهم يمثلون صوت الشعب الحقيقي، وعادة ما ينتقلون إلى الضوابط الديمقراطية القصيرة فور توليهم السلطة. لكن حملاتهم تبلغ من الاستقطاب أنها تقسم البلد نصفين وتحشد خصومهم. وبصفة خاصة في البلاد الكبيرة التي تكون فيها السلطة مشتتة جغرافيا، مثل البرازيل والولايات المتحدة، عادة ما تحتفظ المعارضة بأدوات أساسية، مثل قوة التمثيل في البرلمان أو السيطرة على بعض المدن والولايات ـ فتبطئ تركيز السلطة.
تساعد جميع هذه العوامل على تفسير هزيمة بولسونارو. فالنمو الاقتصادي السريع الذي وعد به لم يتحقق قط. وتعامله مع الوباء كان كارثة مميتة. ولم يتمكن قط من الفوز بالسيطرة المستمرة على الكونجرس في البرازيل. وبحلول نهاية ولايته كان في نظر كثير من الناخبين منذورا بالفشل، ولم يكن قد حشد من السلطة في يده ما يجعله يتحدى إرادتهم.
برغم هزيمتي ترامب وبولسونارو في الانتخابات سيكون مما ينافي الحكمة أن يعلن خصومهما الانتصار قبل الأوان.
بحلول وقت بداية ولاية بايدن في يناير 2021 انتهى كثير من المراقبين إلى أن ترامب قد خسر أخيرا سطوته على البلد، وربما على حزبه، وفي غضون أقل من عامين، بدت سذاجة تلك التنبؤات. لقد كان انتصار بايدن واضحا لكنه لم يكن طاغيا. فتبقى معدلات الرضا عنه قريبة من المستويات الدنيا للرؤساء في ولاياتهم الأولى في هذه المرحلة من حكمه. في الوقت نفسه، تبقى لترامب قاعدة جماهيرية ملتهبة وقد نجح في تطهير الحزب الجمهوري من أغلب منتقديه. وبرغم أنه لم يعلن بعد ترشحه لانتخابات 2024، فإن الرجوع إلى البيت الأبيض بعيد عن المستحيل.
قد يثبت بولسونارو أنه قوي بالدرجة نفسها. فأكثر من مليوني ناخب فقط هم الذين فصلوا بينه وبين لولا. والبرازيل تفوق الولايات المتحدة افتقارا إلى المساواة ويقال إنها تفوقها استقطابا، وهذه الانقسامات تيسِّر على بولسونارو أن يستمر في تأجيج سخط قاعدته. وبرغم أن رجوع لولا اعتمد على ائتلاف واسع، فقد صعد إلى السلطة بوصفه يساريا معتزا بيساريته، فنال عداء شرسا، وربما دائما، من قرابة نصف بلده.شأن ترامب، يحتمل أن يحتفظ بولسونارو بتأييد ملتهب من قسم غير بسيط من الناخبين، بما يوفر له وضعا جيدا لاستغلال الفرصة السياسية التالية. وفي حال قيام لولا بخطوات خاطئة، أو حتى معاناة البرازيل بعض سوء الحظ غير الخاضع لسيطرة الرئيس الجديد، فقد يكتسب بولسونارو زخما جديدا بإلقائه اللوم على الحكومة في إحباط الشعب. وفرص زلل لولا كثيرة: ففي الأفق ركود عالمي، وفي البرازيل فساد عميق، وبعض حلفائه الأكثر تطرفا سيحاولون دفعه إلى تبني سياسيات غير شعبية.
ثمة سرديتان متنافستان بشأن معنى نتيجة الانتخابات البرازيلية. فالبعض يرى هزيمة بولسونارو إشارة إلى أن الموجة الشعبوية بلغت أخيرا ذروتها. في حين يرى آخرون ما له من دعم وسط الـ58 مليون برازيلي الذين صوتوا له إشارة على أن الديمقراطية لم تزل محاصرة كما كانت من قبل. ولكن التفسيرين قد لا يكونان متباعدين مثلما يبدوان.
فحينما يفوز الشعبويون الاستبداديون بالسلطة، يلحقون في العادة أضرارا كثيرة بالمؤسسات الديمقراطية. لكن هذا لا يعني لهم ضمان السيادة. ففي كثير من الأحيان، يخسرون في النهاية قبضتهم على السلطة.
وبالعكس، حينما يخسر الشعبويون الاستبداديون السلطة، ينحسر أخطر تهديدات الديمقراطية لبضع سنوات في العادة. لكن هذا لا يعني أنه انتهى. فقد يتسنى للشعبويين الاستبداديين الحفاظ على قدرة لتجديد النظام السياسي من المعارضة ـ بل وترتيب رجعات تبدو بعيدة الاحتمال كرجعة بنيامين نتانياهو أخيرا في إسرائيل.
كل هذا يشير إلى أنه ليس من المحتمل أن تحدث انتفاضة ديمقراطية انتصارية أو هزيمة محققة للشعبوية في العقود القليلة القادمة. بل إن الشعبويين الاستبداديين من أمثال ترامب وبولسونارو سوف يبقون جزءا كبيرا من الأفق السياسي. فالمعركة مع الشعبوية ليست ظاهرة عابرة، سرعان ما تنتهي إلى حل يصب في صالح الديمقراطية أو الفاشية، وإنما هي واقع جديد في بلاد ديمقراطية قوية ومأزومة في العالم كله.
ياشا مونك كاتب مساهم في مجلة ذي أطلنطيك ومؤلف كتابة «لماذا تنهار الديمقراطيات المتنوعة وكيف يمكن أن تستمر».
عن ذي أطلنطيك ترجمة خاصة بجريدة «عمان»
