ما تفتقده القوى المُعادية لترامب

04 ديسمبر 2023
04 ديسمبر 2023

تمر الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة بأوقات فريدة ومُثيرة للقلق. يُمثل الرئيس السابق -الذي تم طلب عزله مرتين، والذي يواجه الآن أربع لوائح اتهام منفصلة بارتكاب جرائم خطيرة- الزعيم الفعلي لأحد الحزبين السياسيين الرئيسيين. بعد إعادة تشكيل الحزب الجمهوري على صورته، يكاد يكون دونالد ترامب بلا شك مرشح الحزب في الانتخابات الرئاسية لعام 2024، على الرغم من الأدلة المتزايدة على جرائمه المالية ودوره في محاولة الانقلاب. وفي حين حقق الديمقراطيون نتائج جيدة في مختلف الانتخابات التي جرت هذا الشهر، تُظهر استطلاعات الرأي أن ترامب يتقدم على الرئيس الأمريكي جو بايدن في الولايات الرئيسية. من الواضح أن هناك شيئا خاطئا في الجمهورية الأمريكية.

إن تولي ترامب رئاسة ثانية سيُشكل تهديدًا للديمقراطية أكبر من ولايته الأولى. في الواقع، تشير نظرة ترامب وخطاباته إلى أنه أصبح أكثر تطرفًا، وقد تعلم أنصاره الآن من محاولتهم الفاشلة لقلب نتائج انتخابات عام 2020. تعمل مراكز الأبحاث الصديقة على وضع خطط لتفكيك الضوابط والموازين التي تفرضها الحكومة الأمريكية، مما يسمح لترامب برئاسة دولة بوليسية تستهدف خصومه السياسيين. يهدف مشروع «مؤسسة التراث المُحافظة» لعام 2025 إلى «إنشاء دليل للإجراءات التي يجب اتخاذها في أول 180 يومًا من الإدارة الجديدة لتقديم الإغاثة السريعة للأمريكيين الذين يعانون من سياسات اليسار المُدمرة». يقع تعيين أُطر مؤيدة لسياسات ترامب في المناصب الرئيسية في صميم هذه الجهود.

وفي حين يتحمل ترامب ومساعدوه في المؤسسة السياسية المسؤولية عن هذا الوضع الكارثي والمُزري، فإن اليسار الأمريكي ووسائل الإعلام المستندة إلى الحقائق، والتي فشلت في تطوير استجابة مُحكمة، يتحملون نفس القدر من المسؤولية. وتتراوح ردود الفعل من التطبيع الضمني (من يستطيع أن ينكر اختيار حزب رئيسي للمُرشح؟) إلى عدم التسامح المُطلق حيال أنصار ترامب. ولكن المُخطط العملي لمعالجة هذا الوضع مفقود، على الرغم من أن مستقبل الديمقراطية الأمريكية أصبح على المحك.

سوف تشمل الاستجابة الواعدة موقفين متناقضين على ما يبدو. أولاً، يجب أن يتحد الوسط واليسار في إعلان تشكيل ترامب ودائرته الداخلية تهديدًا مُدمرًا للجمهورية الأمريكية، وينبغي التعامل مع كبار مساعديه على هذا النحو، وليس باعتبارهم من المتحدثين الذين يعززون معدلات التصنيف. ويجب تسليط الضوء باستمرار على خطط ترامب المُعلنة بوضوح لتدمير الديمقراطية الأمريكية. ومع ذلك، يتعين على الوسط واليسار أيضا إدراك أن أغلب أنصار ترامب لديهم مظالم مشروعة. وهذا هو جزء من الاستجابة الناجحة التي كانت مفقودة.

ورغم وجود عناصر قومية بيضاء وعنصرية قوية بلا شك في حركة «ماغا» المُؤيدة للرئيس دونالد ترامب، إلا أنها بعيدة كل البعد عن تمثيل معظم الأشخاص الذين سيُصوتون لصالح الجمهوريين في الانتخابات المقبلة. لقد عانت نسبة كبيرة من سكان الولايات المتحدة اقتصاديًا على مدى العقود الأربعة الماضية. فمنذ عام 1980، انخفضت معدلات الدخل الحقيقية (المعدلة حسب التضخم) بين الرجال الحاصلين على شهادة الثانوية العامة أو شهادات مُتدنية، وظلت الأجور المتوسطة في حالة ركود حتى أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ومن ناحية أخرى، عرفت دخول الأمريكيين الحاصلين على شهادات جامعية وذوي المهارات المُتخصصة (مثل البرمجة) ارتفاعًا سريعًا.

هناك أسباب عديدة وراء هذا التحول في سوق العمل، والعديد منها مُتجذر في الاتجاهات الاقتصادية التي طالما روج لها الساسة التابعون للمؤسسة ووسائل الإعلام باعتبارها فوائد للعُمال. لقد أدت موجة العولمة التي كان من المفترض أن ترفع جميع القوارب إلى غرق العديد منها.

إن الأتمتة التي كان من المفترض أن تجعل التصنيع في الولايات المتحدة أكثر قدرة على المنافسة وتساعد العمال تُشكل العامل الأكبر في انخفاض الدخل بين العُمال الذين لا يحملون شهادات جامعية. ومن ناحية أخرى، فقد تدهورت النقابات العمالية، وقوانين الحد الأدنى للأجور، والمعايير التي تحمي العُمال من ذوي الأجور المُنخفضة.

في خضم هذه العملية، أصبح العديد من الأمريكيين يشعرون بالاستياء بسبب تجاهل وجهات نظرهم ومظالمهم من قبل وسائل الإعلام الرئيسية والنخبة التكنوقراطية المُثقفة.

في دراسة حديثة، قام الاقتصاديون إليانا كوزيمكو، ونيكولاس لونجيت ماركس، وسوريش نايدو بتوثيق الانقسام بين التفضيلات الاقتصادية للعمال الأقل تعليمًا من ناحية، وبين المثقفين والحزب الديمقراطي من ناحية أخرى. وفي حين يُفضل العُمال العاديون بشدة الحد الأدنى للأجور، والضمانات الوظيفية، والحماية من التوترات التجارية، والنقابات الأقوى، فإن النخب تعارض مثل هذه البرامج باعتبارها تدخلا غير مبرر في السوق. وكانت الطريقة المفضلة لدى الحزب الديمقراطي لمساعدة الفئات الأقل حظًا تتمثل في الضغط من أجل إعادة التوزيع عبر نظام الضرائب والتحويلات. لا يقتصر هذا الانفصال بين العُمال وصُناع السياسات المُنتمين إلى يسار الوسط على الولايات المتحدة. وكما أظهر خبراء الاقتصاد أموري جيثين، وكلارا مارتينيز توليدانو، وتوماس بيكيتي، فقد حدثت عملية إعادة ترتيب سياسية مماثلة في 21 دولة ديمقراطية غربية. ففي خمسينيات وستينيات القرن العشرين، صوتت الطبقة العاملة بشكل موثوق لصالح أحزاب يسار الوسط والأحزاب الاشتراكية، في حين صوت المواطنون الأكثر ثراء والحاصلون على تعليم أعلى لصالح أحزاب اليمين. ولكن بحلول عام 2010، كان الأشخاص الأكثر تعليمًا يصوتون بأغلبية ساحقة لصالح أحزاب يسار الوسط، وتحول العُمال نحو اليمين، ويرجع ذلك جزئيًا إلى ابتعاد أحزاب يسار الوسط عن المواقف السياسية المتوافقة مع المصالح المادية للعُمال وغير ذلك من الأولويات.

يتطلب عكس هذا الاتجاه إدخال تغييرات ليس فقط على السياسات المُحددة التي تؤيدها أحزاب يسار الوسط، بل وأيضا على اللغة التي تستخدمها. وقد يتطلب الأمر أيضًا بذل جهود استباقية لترقية العُمال إلى مناصب قيادية داخل الأحزاب، بدلا من السماح للنخب المُتعلمة تعليما عاليا بشغل معظم المناصب العليا. في الولايات المتحدة، لا يُعد إعادة توجيه العمال نحو الأحزاب الديمقراطية مجرد ضرورة حتمية لهزيمة ترامب وأعوانه، بل تُعد أيضًا خطوة ضرورية للاقتصاد الأمريكي.

سيكون تنظيم صناعة التكنولوجيا ودعم العُمال من القضايا الرئيسية في العقد المقبل وما بعده. ولن تستطيع أحزاب يسار الوسط التي تفتقر إلى أصوات العُمال الارتقاء إلى مستوى الحدث. ويتعين على الأمريكيين الذين ما زالوا يدعمون الديمقراطية كشف حقيقة ترامب والعمل جاهدين لمنعه من العودة إلى السلطة. للقيام بذلك، يتعين عليهم أيضا أن يكونوا أكثر استيعابًا واستجابة للعُمال ــ بما في ذلك أولئك الذين لم يستفيدوا بالقدر الكافي من العولمة والتغيرات التكنولوجية ولا يُشاركون مواقفهم بشأن القضايا الاجتماعية والثقافية.