عصر الخطر

28 أبريل 2024
28 أبريل 2024

برونو ماسياس

ترجمة: أحمد شافعي

في عشاء خاص قبل أشهر قليلة، شرح لي وزير أوروبي مخضرم ما سيجري في حال فوز دونالد ترامب بانتخابات الولايات المتحدة الرئاسية في نوفمبر وسحبه كل الدعم لأوكرانيا. إذ قال: إنه ما لم تتقدم البلاد الأوروبية الكبيرة لتحل محل الجهد الأمريكي ـ وهو فرض مستبعدـ فلن يكون من خيار لبلده العضو في الناتو، إلا أن يقاتل مع الأوكرانيين من داخل أوكرانيا. فلماذا ـ على حد تعبيره ـ ينتظر بلده الهزيمة الأوكرانية التي سوف تعقبها تعبئة قسرية لبلد مهزوم من أجل أن تتضخم صفوف الجيش الروسي العازم على القيام بجولات جديدة؟

شعر بعض حاضري ذلك العشاء بالاطمئنان إلى أنه ليس جميع من في أوروبا مستعدين لتحول أوكرانيا إلى ضحية وقربان. وتخوف آخرون من أن يؤدي هذا التضامن إلى حرب على المستوى القاري. ولكن ذلك على وجه التحديد هو ما كان يطرحه الوزير: هل يمكننا القول إن الحرب لا تعنينا؟ لعل كل أوروبي ـ علم ذلك أم لم يعلم ـ منخرط في صراع أكبر كثيرا مما بدا قبل سنتين.

على مدار العام الماضي، أقامت روسيا وأوكرانيا تحصينات ثقيلة بطول خط التماس في منطقة الدونباس، استعدادا لحرب طويلة. والجيران أيضا كانوا يستعدون. ففي يناير، أقرت لتوانيا ولاتفيا وإستونيا خطة لإقامة خط دفاع مشترك في البلطيق بطول الحدود مع روسيا وبيلاروسيا، مستلهمةً في ذلك أنظمة الدفاع الفعّالة القائمة في أوكرانيا.

إن القوات التي تغذي الصراع اليوم أقوى من القوات الرامية إلى حفظ النظام. ولعل هذا هو السبب في أن حروبا كثيرا للغاية تبقى بلا حلول. صحيح أنها قد تغيب عن أنظارنا، شأن صراعي سوريا أو اليمن، ولكن غيابها هذا لا يتم إلا بقوة التكرار، وتوالي الأهوال اليومية بوتيرة ثابتة. والرجاء الآن هو أن تفلت أوكرانيا والشرق الأوسط من هذا المصير، أما الخوف فهو أن تتحول بعض الصراعات إلى حروب أكبر.

لقد ساد ارتياح كبير عقب ضربة إسرائيل المحدودة لإيران في التاسع عشر من أبريل، لما بدا أن حربا كاملة بين البلدين قد اجتنبت. أم ترى هذه الحرب قد بدأت بالفعل؟ في النهاية، كانت ضربة إيران المذهلة بالصواريخ والمسيَّرات لإسرائيل في الثالث عشر من أبريل لتبدو غير مطروحة قبل أسبوعين من وقوعها. وحتى مستوى ضبط النفس الذي أظهرته إسرائيل وإيران في هذه الواقعة قد لا يشير إلى غير تخطيط محكم لصراع طويل فيه جولات كثيرة قادمة. والصراعات في عصر الخطر قد لا تكون لها بدايات أو نهايات واضحة.

في الوقت نفسه، ينتشر الخراب من الأطراف إلى مركز القوة داخل النظام العالمي، وينهار الفارق أصلا بين المركز والأطراف. وتأملوا أوكرانيا مرة أخرى. لقد كان جزء من أهمية الصراع الأوكراني التاريخية يتمثل في أنه أبرز اللحظة التي انعزلت فيها البلاد الديمقراطية من وظيفة «شرطي» العالم ـ أي الوسطاء الرامين إلى إعادة النظام في مختلف نقاط التوتر ـ لتصبح هي نفسها بؤر توتر نشطة. فحتى العراق وأفغانستان تم تقديمهما بوصفهما عمليات شرطية تستهدف الإرهاب أكثر من كونهما حربين عاديتين. ومنذ بدء الحرب على أوكرانيا، بدت الأحداث هنا بصورة لافتة أحداثا جديدة وخطيرة، لا لأنه كان أكبر صراع كبير في أوروبا منذ الحرب العالمية الأولى ـ فهو لم يكن كذلك ـ ولكن لأنه مع تورط الكثير من قوى العالم الكبيرة في الصراع لم يبق من قوة لاحتواء الصراع.

هل الولايات المتحدة متورطة مباشرة في حرب أوكرانيا؟ يؤسفني أنها كذلك. فلقد تورطت مباشرة في اللحظة التي قرر بوتين فيها استعمال ترسانته النووية وسيلة ابتزاز للحد من الدعم الغربي لكييف. لعل سياسة مختلفة كان يمكن تبنيها، لكن إدارة بايدن سارعت إلى استنتاج أن انهيار الخطوط الروسية قد يستفز الكرملين إلى استعمال سلاح نووي في أوكرانيا، فيصبح بعد ذلك أمن المواطنين الأمريكيين نفسه مهددا. وجو بايدن وكبار مسؤوليه على قناعة بأن خطر التصعيد النووي حقيقي. وهذا الخطر يصوغ كل التقديرات، بما فيها مدى دعم أوكرانيا بالتكنولوجيا العسكرية المتقدمة. لقد أصبحت الأسلحة النووية هجومية ـ لا دفاعية ـ تيسر حروب الغزو بتحصينها جيشا غازيا من خطر التعرض للهزيمة. وهي وحدها التي حولت انتصارا أوكرانيًّا ـ بدا لوهلة أنه في الإمكان ـ إلى احتمال متزايد البعد.

وكشف تطور ثان حدود القوة الغربية: وليس ذلك يقتصر على أن الاقتصاد الروسي الخاضع للعقوبات لم ينهر ـ مثلما توقع بايدن في أيام ما بعد الغزو ـ بل إنه سجل أرقام نمو أفضل من ألمانيا أو بريطانيا منذ عام 2022. وعلى مدار العقد الماضي أو نحوه، يتحدث محللون عن إعادة توزيع القوة الاقتصادية لصالح عمالقة آسيويين من قبيل الصين والهند. وقد عمد بوتين ببساطة إلى استعمال تلك التطورات لعزل الاقتصاد الروسي عن الغرب. استمر النفط في التدفق، مغذيا آلة الحرب الروسية. وإنكم لتسمعون في بعض الأحيان أن أوروبا لم تعد معتمدة على النفط الروسي لأنها توقفت عن شرائه. لكنها في واقع الأمر لم تزل معتمدة على الإمدادات الروسية التي تباع ـ حتى لو لم يكن ذلك لأوروبا ـ فتحافظ على انخفاض أسعار الطاقة العالمية. ومنذ عقدين، حين كانت روسيا معرضة لأزمات الدين المدمرة أو إفلاس البنوك، ما كان بوتين ليجرؤ على محاربة أوكرانيا.

لقد كان مشهدًا استثنائيًا ذلك الذي بدت فيه البلاد الديمقراطية الغربية عند تخفيض منزلتها من المقعد الإمبراطوري لتصبح في حلبة المصارعين. فبغتة، أزيلت كل القواعد والقيم المطلقة، وحلت محلها حماسة لمعركة بين «نحن» و«هم». وبات هذا التغير في النهج أوضح مع حرب غزة. ففي يوم من الأيام حاولت الولايات المتحدة أن تضع نفسها في موضع الوسيط بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وكان لذلك الدور انحياز دائم، ثم وقع السابع من أكتوبر فكان مختلفا اختلافا نوعيا.

ومثلما قال لي الأمير تركي الفيصل ـ رئيس المخابرات السعودية السابق ـ خلال حوار في الرياض في مارس، فإن إحساس التوازن بات مفقودا. تشعر واشنطن أنها تخوض حربا في جانب إسرائيل، ومثلما يحدث في الحروب دائما، تكون الحقيقة أول الخسائر. تخضع المعلومات لسيطرة دقيقة، والمتحدثون الرسميون في واشنطن كثيرا ما يذكرونني بالمتحدث الرسمي العراقي خلال حرب بغداد 2003 [أي محمد سعيد الصحاف]. ففي الثاني من أبريل زعم مستشار اتصالات الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي ـ مرددا نغمة قديمة ـ أن القوات الإسرائيلية لم تنتهك أي قانون دولي منذ أكتوبر.

تبقى الولايات المتحدة بلدا فريد القوة، لكنه لم يعد يملك الموارد الاقتصادية والروحية لتمثيل فكرة النظام العالمي. وفي كل يوم يظهر من مسؤوليها أنهم عاجزون تمام العجز عن فهم الرؤى المختلفة. ولكن مثلما يتبين من اقتراعات الأمم المتحدة على وقف فوري لإطلاق النار في غزة، تواجه وجهة النظر الأمريكية اعتراضات متزايدة من أغلبية ساحقة من البلاد.

عندما ينهار النظام، ينهار بسرعة وفي كل موضع. ففي بعض البلاد الغربية بات حتى التفكير في وجهات نظر معارضة يعد الآن ضربا ما من الخيانة. وينزاح الاهتمام بالقضايا المعقدة مفسحا المجال لأبسط السرديات، حيث يبدو العدو باعتباره قوة عالمية خبيثة.

ونرى هذا في حظر المظاهرات والأصوات المناصرة للفلسطينيين من المؤتمرات، كما هو الحال بصورة متزايدة في ألمانيا. وفي الولايات المتحدة، لو أن للحرب في غزة أن تحظى بأي نوع من الاهتمام المستمر، فعليها أولا أن تتحول إلى حلقة من الحروب الثقافية في الجامعات الأمريكية. وفيما أكتب هذا المقال، تكشف أطقم الطوارئ الفلسطينية مقابر جماعية في مستشفيي الشفا وناصر في غزة. ولا يحتمل الدليل المصور بالفيديو تشكيكا، ومع ذلك فما من اهتمام يذكر من وسائل الإعلام الغربية.

وليس الغرب وحيدا في فرض رؤيته على بقية العالم. فقد تبنت السلطات في بكين الطريقة نفسها في بداية حرب أوكرانيا حينما اعتبرت مقاومة كييف مؤامرة أمريكية. واختارت الهند أن تبقى بعيدة عن التورط، برغم أن تعاطفها مع الحصان الأقوى واضح في حالتي روسيا وإسرائيل. في الوقت نفسه، خلال العقد الماضي، أعادت إيران إسكان سوريا بمستوطنات من أجل زيادة نفوذها. بعد أن هرب السكان السنّة السابقون من قتال مسلح ثم لم يسمح لهم بالرجوع إلى بيوتهم.

غالبا ما يُعتقد أن الحروب تخاض طلبا للنظام، بين قوتين متعارضتي الرؤية لما يعنيه النظام. في السودان، يحرمنا الصراع المستمر والقاسي بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع من مثل هذه الأفكار. فقد تأسست قوات الدعم السريع سنة 2013 في دارفور لكنها تنامت حتى أصبحت أقرب إلى شركة أمن خاصة تخوض حربا في اليمن، بتمويل من بعض الدولارات النفطية الخليجية. والجيش الخاص لا يكون مسؤولا أمام أي دولة ولكن أهدافه كثيرا ما تكون غير محددة عن عمد. وكما أن على كل شركة أن تعظِّم عوائدها وأرباحها، فالميلشيا الخاصة لا بد أن تعظِّم عائداتها. ويتصادف أن العائدات تقاس بعدد الجثث والقرى المحروقة. ومن الصعب للغاية تسريح الجنود بعد أن تهدأ الحرب، مثلما جرى في اليمن. فبدلا من ذلك يجري إيجاد ميادين قتال جديدة.

وإنه لحتمي أن ينتشر هذا النموذج، ولو لأنه ما من مبدأ آخر يبدو في قوة إقناع مبدأ «تعظيم العوائد». ومثلما قال الأكاديمي السوداني مجدي الغزولي، ففي حزام البلاد الممتد من اليمن إلى السودان، ومن العراق إلى أفغانستان، أصبح شكل الميلشيا هو أداة السيطرة الأشد فعالية. إذ أثبت فعاليته في حفظ وظائف المجتمعات داخل نظام سوقي بات تشغيل المراهقين فيه ضمن الجيوش هو السلعة الأيسر توافرا. ويعتقد الغزولي أن هذه النزعة سوف تستمر لتسود في المستقبل. فهل يمكن أن تصير نزعة عالمية؟

في وقت مبكر يرجع إلى عام 2016، أدركت قوات الدعم السريع أن الميليشيا الخاصة يمكن أن تظفر باحتكار سلع ذات قيمة من قبيل الذهب وتؤمِّن المسارات التجارية والوصول إلى الأسواق الخارجية. وقد تعلمت مجموعة فاجنر من نظيرتها في السودان هذه الحرفة في عام 2017، قبل أن تنقلها إلى جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي. وفي الشمال، تم نشر قوات الدعم السريع لحراسة الحدود مع ليبيا ووقف تدفق المهاجرين إلى أوروبا. وتنامت هذه التجارة هي الأخرى.

في كلمة أمام الكونجرس الأمريكي في الحادي عشر من أبريل، تحدث رئيس الوزراء الياباني كيشيدا فوميو عن أفق أمني عالمي واحد، إذ قال: إن «أوكرانيا اليوم قد تصبح شرق آسيا غدا». وثمة أمر محتوم في عولمة الصراع، وهو أن كل فاعل سوف يبحث عن شركاء وحلفاء حيثما يتسنى له العثور عليهم، وبخاصة حينما تصبح الحرب احتمالا واقعيا. وعلى هذا النحو، يكون الأفق الأمني اليوم شبيها بالديناميكيات المفضية إلى الحربين العالميتين اللتين شهدهما القرن العشرون. ولعل الحرب العالمية لا تعدو ببساطة حربا لا يقف فيها أحد خارج الحلبة. وبهذا المعنى نكون بالفعل في حرب عالمية.

قد يبدو السفر إلى شرق آسيا اليوم في بعض الأحيان أشبه بالرجوع إلى زمن مفقود، إلى عالم يبدو فيه الصراع العسكري بعيد الاحتمال، لأن الطاقة الاجتماعية مركزة تحديدا على التطور التكنولوجي والاقتصادي. وهذا وهم. فقد أنهيت زيارة إلى تايوان في عام 2023 خلال اليوم الوطني للجزيرة، واقتنعت أنه قد لا تكون الحرب وشيكة ولكن يجري بالفعل إرساء أسس صراع قادم. فقد انهار التفاهم الهش المتفق عليه بين ماو تسيدونج وريتشارد نيكسن بشأن تايوان قبل نصف قرن. لم تعد الصين تقبل أن يكون الوضع القائم، الذي تؤثره الأغلبية في تايوان ـ قابلا للدوام، والولايات المتحدة مقتنعة بأن إعادة التوحيد السلمي بين تايوان والصين قد لا تكون مقبولة الآن بعد أن أصبحت الصين منافسا ذا شأن. وفي تقرير لصحيفة نيوستيتسمان في ديسمبر 2023، كتبت أن اللحظة الراهنة في تايوان قد تقارن بأوكرانيا في 2004، أي في سنة الثورة البرتقالية قبل عقد من أول حرب روسية وقبل قرابة عقدين من بدء الحرب الحالية الأكبر حجما. فحديث كيشيدا لم يخلُ من وجاهة.

وعولمة الصراع تعني في نهاية المطاف أن المبدأ العالمي الوحيد هو الصراع نفسه، فما من حل لتوتر يكمن في جاذبية أفكار النظام. ومراكز الأبحاث والشركات الاستشارية، التي يحلو لها أن تناقش المخاطر والتهديدات، ترى أن العالم على الحافة. وفي عصر الخطر، قد يتبين أن هذه التصورات شديدة التفاؤل. فالخطر يشير إلى المستقبل، في حين أننا نعيش بالفعل وسط الأنقاض.

برونو ماسياس مراسل أجنبي لنيوستيتسمان ووزير أوروبا السابق في البرتغال، ومؤلف كتاب «الجغرافية السياسية لزمن النهاية من الوباء إلى الأزمة المناخية».