ما بعد الغرب.. نهاية الوحدة الليبرالية
01 أكتوبر 2025
ترجمة: نهى مصطفى
01 أكتوبر 2025
أصبح الحديث عن العيش في «عالم ما بعد الغرب» شائعًا، حيث يستشهد المعلقون عادةً بهذه العبارة للتنبؤ بصعود قوى غير غربية، في مقدمتها الصين، إلى جانب البرازيل والهند وإندونيسيا وتركيا ودول الخليج وغيرها. غير أن ما يجري لا يقتصر على «صعود الآخرين»، بل يتجاوز ذلك إلى أمر أكثر عمقًا: تلاشي «الغرب» نفسه ككيان جيوسياسي متماسك وذي دلالة. فالغرب، كما اعتيد فهمه بوصفه مجتمعًا سياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا موحدًا، يترنح منذ زمن، وقد تُشكل ولاية دونالد ترامب الثانية في البيت الأبيض الضربة القاضية له.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، شكّل نادٍ متماسك من الديمقراطيات المتقدمة اقتصاديًّا الركيزة الأساسية للنظام الدولي الليبرالي القائم على القواعد، لم ينبع تماسك هذه المجموعة من إدراكها المشترك للتهديد فحسب، بل أيضًا من التزامها الجماعي بعالم مفتوح يقوم على المجتمعات الحرة والتجارة الحرة، واستعدادها للدفاع عن هذا النظام. ضمت هذه النواة الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، إلى جانب حلفاء في آسيا والمحيط الهادئ مثل أستراليا ونيوزيلندا (المستعمرتين البريطانيتين السابقتين)، وكذلك اليابان وكوريا الجنوبية، اللتين اندمجتا في منظومة التحالف الأمريكي لما بعد الحرب وتبنّتا مبادئ الحكم الديمقراطي واقتصاد السوق. مثّل هذا التكتل ما عُرف بالعالم الحر خلال الحرب الباردة. ولم يكتفِ الغرب بالصمود أمام الصراع ثنائي القطب، بل وسع حدوده لاحقًا ليضم عددًا من دول الكتلة السوفييتية السابقة وبعض جمهورياتها عبر توسع حلف الناتو والاتحاد الأوروبي.
على مدى العقود الثمانية الماضية، أنشأت الدول الغربية مؤسسات كبرى مثل الناتو والاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع لتعزيز أهدافها المشتركة، كما نسقت مواقفها عبر أطر أوسع مثل الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية. ورغم الانقسامات التي ظهرت أحيانًا، من أزمة السويس إلى حرب العراق عام 2003، ظلّت هذه التوترات تدعم في النهاية تماسك الغرب بدل أن تفككه.
لم يختبر أي حدث تماسك الغرب كما فعلت عودة ترامب إلى البيت الأبيض. فمنذ يناير تبنى نهج «أمريكا أولًا» القومي والحمائي، محتقرًا التحالفات والتعددية والقانون الدولي، ومتجاهلًا الديمقراطية وحقوق الإنسان. رفض دور بلاده في تقديم المنافع العامة العالمية، من التجارة المفتوحة إلى مكافحة تغير المناخ، وساند القوى القومية اليمينية في أوروبا وأمريكا الشمالية. هذا التحول صدم أقرب حلفاء واشنطن، حتى أن رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين أقرت قائلة: «الغرب كما عرفناه لم يعد موجودًا».
لا تزال ملاحظة أورسولا فون دير لاين تتردد، لأنها تعكس ما يقوله كثير من القادة الغربيين سرًّا: هذه المرة مختلفة فعلًا. فاختفاء الغرب كقوة ذات معنى سيترك فراغًا ضخمًا في النظام الدولي، الذي قام على الانفتاح والقواعد. كانت المفاهيم الليبرالية التي بُني عليها الغرب عالمية الطابع، بينما تستند المفاهيم القومية الجديدة إلى حماية الحدود والخوف من الآخرين. ومع تآكل هذه المبادئ، يُرجّح أن تتسارع صعود التعددية غير الليبرالية، أي نظام دولي هش تقوده قوى استبدادية كبرى. صحيح أن هذا التراجع يفتح بابًا أمام قوى متوسطة لبناء شبكات تعاون تناسب القرن الحادي والعشرين، لكنه أيضًا ينذر بعالم أكثر فوضوية وأقل تعاونًا. في الحرب الباردة، كان الغرب جبهة متماسكة في مواجهة الاتحاد السوفييتي وكتلته، متميزًا عن دول «الجنوب العالمي» ما بعد الاستعمار، التي كانت مسرحًا لصراعات الشرق والغرب.
لم يكن النظام ثنائي القطب الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية هو ما تصورته الولايات المتحدة في البداية؛ فخلال الحرب، خططت واشنطن لإقامة نظام دولي مفتوح، قائم على العضوية العالمية، والتعددية، والتعاون بين القوى الكبرى، كما جسدته الأمم المتحدة الناشئة.
لكن الصدام مع الاتحاد السوفييتي أجهض هذه الرؤية. ومع إحكام موسكو قبضتها على أوروبا الشرقية عام 1947، أدرك الأمريكيون أنه يوجد «عالمان لا عالم واحد». وهكذا تبنت واشنطن سياسة الاحتواء، وسعت إلى توحيد العالم غير السوفييتي سياسيًّا واقتصاديًّا، وفي النهاية عسكريًّا. نتج عن ذلك «غرب» ملموس سياسيًّا واقتصاديًّا، يختلف عن فكرة الغرب الحضاري الغامضة، وتجسد في مؤسسات مثل حلف الناتو، والتكامل الأوروبي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. أصبح الغرب بمثابة «نظام داخل النظام»: نادٍ لديمقراطيات السوق، يعمل ضمن النظام الدولي الأشمل الذي ضم منظمات كالأمم المتحدة، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والجات.
ومع الوقت، انضمت إلى هذا الغرب الداخلي دول لم تكن غربية ثقافيًّا مثل اليابان، لكنها تبنت مبادئ ليبرالية سياسية واقتصادية، وعندما يشير بعض المحللين اليوم إلى «الشمال العالمي»، فهم يقصدون هذا الكيان الداخلي.
عزز الالتزام المشترك بالديمقراطية والرأسمالية من تماسك الغرب؛ فديباجة معاهدة واشنطن (1949)، التي أسست الناتو، تعهدت بحماية الحرية والتراث والحضارة على أساس الديمقراطية والحرية الفردية وسيادة القانون. لم تكن هذه مجرد شعارات؛ فقد أثرت فعليًّا على سلوك الحلفاء وحددت كيفية فهمهم لمصالحهم وتسوية خلافاتهم، حتى باتت فكرة الحرب داخل هذا النظام غير واردة. صحيح أن الغرب غالبًا قدّر الديمقراطية داخل معسكره أكثر مما قدّرها في دول الجنوب أو العالم ما بعد الاستعمار، خاصة تلك ذات الميول اليسارية، لكن بجانب القيم المشتركة، أدّت قيادة واشنطن التوافقية دورًا أساسيًّا في طمأنة الحلفاء وتخفيف وطأة هيمنتها.
عبر الرئيس أيزنهاور عن هذا التوازن في خطابه عام 1953 حين شدد على أن قيادة «العالم الحر» تختلف عن الإمبريالية، وأنها تقوم على الحزم لا العنف، وعلى الأهداف المحسوبة لا ردود الفعل المتسرعة.
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، حافظ الغرب على تماسكه ولم ينقسم إلى كتل متنافسة، وإنما ساد تفاؤل بأن الديمقراطيات الليبرالية ستتوسع عالميًّا. لكن هذه التوقعات لم تتحقق؛ فبدلًا من «عولمة الغرب»، صعدت قوى كبرى وإقليمية تسعى لتحدي النظام الدولي القائم. ومع مرور الوقت، تحول الغرب أكثر نحو بعدٍ حضاري، خاصة بعد هجمات 11 سبتمبر، والحرب على الإرهاب، وأزمات الهجرة التي غذّت النزعات القومية في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.
رغم الاضطرابات في عهد ترامب، حافظ الغرب على تماسكه، ثم انتعش في عهد بايدن مع عودة الالتزام الأمريكي بالمبادئ الليبرالية والنظام الدولي القائم على القواعد. واصلت الحكومات الغربية الثقة بواشنطن كضامن مستقر، مستندةً إلى القيم والالتزامات المشتركة التي ربطت ضفتي الأطلسي.
بعد ثمانية أشهر من ولاية ترامب الثانية، انهارت ثقة الحلفاء في واشنطن رغم محاولات التغطية على الخلافات؛ فسياساته الأحادية والرسوم الجمركية وتهديداته أبعدت شركاءه، ودَفعت الأوروبيين لتعزيز إنفاقهم الدفاعي والسعي لاستقلال استراتيجي، كما زادت مخاوف حلفاء آسيا من تخلي أمريكا عنهم. وبالتوازي، اتجهت الدول نحو تنويع شراكاتها التجارية، مما ساهم في إعادة تشكيل النظام التجاري العالمي.
في ربيع 2025، أظهر استطلاع للرأي أن 28% فقط من الأوروبيين اعتبروا الولايات المتحدة «حليفًا موثوقًا به إلى حد ما»، مقارنةً بأكثر من 75% في العام السابق. إحدى أبرز الخسائر المؤسسية لانسحاب ترامب من الغرب كانت مجموعة السبع، التي تأسست في السبعينيات وجمعت أهم ديمقراطيات السوق المتقدمة (كندا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، اليابان، المملكة المتحدة، الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي). ورغم انتعاشها عام 2014 بعد طرد روسيا إثر ضم القرم، فقد هاجمها ترامب مرارًا، وبلغ الأمر ذروته بانسحابه غاضبًا من قمة 2018. اليوم يصفها كثيرون بـ«مجموعة الستة زائد واحد»، إذ يهدد التباعد الأمريكي بحرمانها من ميزة لا تملكها مجموعة العشرين: كونها ناديا متشابه التفكير للديمقراطيات الليبرالية الكبرى. بين انحياز ترامب الأحادي وشكوكه تجاه الصين، بدأت القوى الغربية المتوسطة في استكشاف شراكات جديدة ومرنة مع القوى المتوسطة الصاعدة في العالم النامي، كجزء من توجه أوسع نحو نظام دولي يُعرف بـ«الانحياز المتعدد»، حيث تسعى الدول إلى أقصى قدر من المرونة في علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية بدلاً من الانحياز بشكل متسق مع قوى أو كتل عظمى معينة. وهذا ما يحدث بالفعل، إذ يسعى الاتحاد الأوروبي وأعضاؤه إلى بناء علاقات تجارية أوثق وروابط دبلوماسية أوثق مع دول مثل البرازيل والهند وإندونيسيا وجنوب إفريقيا.
خلال ولايته الأولى، وتحت قيود المؤسسات، استحضر ترامب أحيانًا فكرة الغرب. ففي خطابه بوارسو عام 2017، سأل إن كان الغرب يملك «إرادة البقاء». لكن سلوكه في التقرب من بوتين كشف أنه لا ينظر إلى الغرب ككيان جيوسياسي قائم على قيم ليبرالية وتقييمات تهديد مشتركة، بل كحضارة غامضة ذات جذور عرقية وتاريخية، بعيدة عن مبادئ الديمقراطية.
الغرب اليوم منقسم؛ إذ يتراجع معناه من تضامن جيوسياسي وأيديولوجي إلى مفهوم حضاري، خصوصًا في الولايات المتحدة، بينما تتآكل الثقة في التحالفات عبر الأطلسي. ويُطرح الآن سؤال مشابه لذلك الذي وُجه سابقًا إلى مصطلح الجنوب العالمي- المستخدم لوصف أكثر من 100 دولة ما بعد الاستعمار والنامية رغم اختلاف تواريخها وثقافاتها ومؤسساتها واقتصاداتها- وهو: هل ما زال الغرب الجيوسياسي فئة تفسيرية ذات جدوى؟ التضامن الاستراتيجي والأيديولوجي الذي كان يومًا مفروغًا منه بين الولايات المتحدة وديمقراطيات السوق الكبرى تآكل. ولم يكن ترامب وحده من عجّل بهذا التفكك؛ بل يعكس الأمر أيضًا استقطابًا متزايدًا في معظم الديمقراطيات المتقدمة، حيث تراجع دعم الوسط السياسي وفقدت الحكومات المعتدلة شرعيتها، فيما يتناحر التقدميون الكوزموبوليتانيون والقوميون المحافظون حول معنى الغرب ذاته.
بلغت التوترات ذروتها في مؤتمر ميونيخ للأمن في فبراير، عندما أثار نائب الرئيس الأمريكي جيه دي فانس غضب الأوروبيين بتصويره القيود «المستيقظة» على حرية التعبير في أوروبا كتهديد أكبر من الحرب الروسية الأوكرانية. طرح فانس رؤية للغرب تقوم على مفهوم «الدم والأرض»، أي هوية حضارية متجذرة في المكان لا في المبادئ الليبرالية. لعقود، اصطفّت ديمقراطيات السوق المتقدمة دفاعًا عن حقوق الإنسان والقيم الليبرالية، ونسقت سياساتها عبر أندية صغيرة ومنظمات دولية مثل الأمم المتحدة. لكن زوال الغرب كوحدة جيوسياسية متماسكة يهدد بتعارض المصالح بين الولايات المتحدة وشركائها السابقين، نتيجة تخلي واشنطن عن الأممية والمعايير الليبرالية. هذا التمزق عميق لأنه يحدث في النواة الداخلية للنظام العالمي منذ أربعينيات القرن الماضي، ويفتح المجال أمام قوى متوسطة مثل البرازيل والهند وإندونيسيا وجنوب إفريقيا للتعاون مع ديمقراطيات سوق متقدمة مثل أستراليا وكندا وفرنسا وألمانيا واليابان والمملكة المتحدة في عالم ما بعد الغرب. ومع ذلك، لن تستطيع هذه الترتيبات الجديدة تكرار إنجاز الغرب الأكبر: ضمان أن أعضاءه لن يخوضوا حربًا ضد بعضهم بعضًا، وهو ما يترك العالم اليوم أكثر عرضة للعداء والصراع.
