ليز تراس تواجه تحديا اقتصاديا مهولا
ترجمة قاسم مكي -
وهي تقف خارج مقرها في 10 داوننج ستريت ذكرت رئيسة الوزراء الجديدة أنها ستحوّل بريطانيا إلى «بلد طموح بوظائف عالية الدخل وشوارع آمنة وحيث تتاح لكل أحد فيه أينما كان الفرصُ التي يستحقها».
كما وعدت بضمان حصول الناس على مواعيد مقابلة الأطباء والخدمات الصحية التي يحتاجونها والتعامل المباشر «مع أزمة الطاقة التي تسببت فيها حرب أوكرانيا». كان حديث تراس قصيرا وواضحا ويخلو تماما من التعابير الشعرية والمحسّنات البديعية.
ربما حدث ذلك عن قصد. فبعد سنوات من الاستماع لمداهنة بوريس جونسون أخذ العديد من البريطانيين كفايتهم على الأقل حتى الآن من أحاديث فارغة جرى تمريرها بذكاء.
رسالة ليز تراس التي فازت بقيادة حزب المحافظين بعد إجبار بوريس جونسون على الترجل هي أنها «امرأة من يوركشير تتحدث بصراحة ووضوح» وأنه لن يكون هنالك المزيد من «اللغو الجونسوني.»
لتنفيذ أجندتها عينت ليز مجلس وزراء متنوع على نحو ملحوظ. فلأول مرة في تاريخ بريطانيا لن يشغل رجل أبيض أيا من المناصب الأربعة الأعلى في الحكومة وهي مناصب رئيس الوزراء ووزير الخزانة ووزير الخارجية ووزير الداخلية.
لكن هذه الصراحة وذلك التنوع لن ينقذا بالضرورة ليز من نفس المصير (الخروج غير المشرِّف من داوننج ستريت) الذي لحق بثلاثة من أسلافها المحافظين جونسون وتيريزا ماي وديفيد كامرون.
حقا يمكن القول إن التحديات التي تواجه تراس أكبر من تلك التي واجهت أيا من رؤساء الوزارة الثلاثة الذين سبقوها. من بين هؤلاء لدى تيريزا ماي فقط بعض المبررات لتحدي هذا الادعاء. فقد جاءت إلى الحكم بعد أن قلب استفتاء البريكست رأسا على عقب أربعةَ عقودٍ من السياسة والاقتصاد البريطانيين.
على أية حال، ليز تراس في وضع صعب. التحدي الإستراتيجي الذي يواجهها هو أن حزب المحافظين مكث 12عاما في الحكم والعديد من شخصياته الكبيرة إما تقاعدت أو فصلت. وهي شخصيا لا تملك تفويضا انتخابيا تقريبا. ففي 5 اقتراعات أجراها ممثلو حزب المحافظين في البرلمان أثناء الجولة الأولى لانتخابات قيادة الحزب كانت تأتي باستمرار وراء ريشي سوناك وزير الخزانة السابق. وفي الجولة النهائية التي تنافس فيها مرشحان من بين أعضائه هزمت سوناك بسهولة وحصلت على إجمالي أصوات بلغ 81326 صوتا. نعم 81326 صوتا في بلد يبلغ تعداد سكانه 68 مليونا.
تغلبت تراس وسط الموالين الأوفياء لحزب المحافظين من خلال وعدها بالعودة إلى «أساسيات» سياسة مارجريت تاتشر وهي خفض الضرائب وتقليص دور الحكومة والتحرير الاقتصادي والتشدد في سياسات الهجرة والهجوم على نقابات العمال وزيادة الإنفاق العسكري وبسط القانون والنظام.
كاستراتيجية لكسب أعضاء الحزب وبارونات الصحافة المحافظة الذين يملكون صحف الديلي ميل (اللورد روثرمير) والديلي تيليجراف (الأخوين ديفيد وفردريك باركلي) وذا سن (روبرت مردوخ) اتضح أن تقمص شخصية السيدة الحديدية فعَّال جدا. فقد أعلنت صحيفة ذا سن في كلمتها التحريرية يوم الاثنين أن ليز تراس هي «رئيسة الوزراء الراديكالية التي نحتاجها لمواجهة الأزمة التي تحيط ببريطانيا.»
لكن كاستراتيجية لحكم بريطانيا في هذه اللحظة الاقتصادية القاسية سيكون تبني «تاتشريَّة» حقيقية انتحارا سياسيا. فمع اقتراب الشتاء وارتفاع سعر الغاز الطبيعي إلى مستويات قياسية تواجه عائلات بريطانية عديدة ما يقرب من ثلاثة أضعاف ما كانت تدفعه لسداد فواتير الطاقة في العام الماضي. بل ارتفعت هذه التكلفة إلى خمسة أضعاف أو أكثر لبعض المنشآت التجارية الصغيرة بما في ذلك المشارب والمطاعم.
المبدأ الذي يشكل ركيزة التاتشرية هو «عدم الدعم وعلى كل أحد أن يقف على رجليه.» وستكون أول مهمة لتراس التخلي عن هذا المبدأ بحذاقة واستحداث برنامج إنقاذ ضخم للعائلات ومؤسسات الأعمال لمساعدتها في سداد فواتير الطاقة.
حسب تقارير وسائل الإعلام ستضع حزمةُ الدعم التي تعكف على إعدادها هي وزملاؤها سقفا لفواتير الطاقة لا يتجاوز 2500 جنيه في العام لفترة العام ونصف العام القادمين. وستتجاوز التكلفة لدافع الضرائب 150 بليون جنيها أو حوالي 7% من الناتج المحلي الإجمالي لبريطانيا. خطة الإنقاذ الضخمة هذه ستكون أكبر من أية برامج دعم استحدثتها حكومة جونسون للتخفيف من آثار الجائحة. بل في الحقيقة ستكون «أكبر برنامج رفاه اجتماعي في التاريخ الحديث للملكة المتحدة»، حسب أحمد فارمان المحلل ببنك الاستثمار جيفيرز في حديث لصحيفة الفاينانشال تايمز.
هل ستنجح الخطة؟ بلا شك ستحظى بالقبول الشعبي مقارنة بالبديل الذي هو عدم فعل أي شيء. ففي وضع شهد ارتفاعا في معدل التضخم ببريطانيا إلى أكثر من 10% وتوقفا لسائقي القطارات والعاملين بالبريد ومراكز الاتصالات عن العمل للمطالبة بأجور أعلى واحتمال انضمام الأطباء والممرضين والمعلمين إليهم في الأسابيع القادمة ستقود مطالبة الشعب البريطاني بالصبر على شدائد الشتاء إلى اضطرابات واسعة وربما حتى أعمال عنف.
عمليا، تراس ليس لديها خيار. المشكلة التي تواجهها أن حديثها عن خفض الضرائب وزيادة الإنفاق الدفاعي أشاع الخوف في الأسواق المالية البريطانية حيث ظل المتداولون يخفضون سعر الجنيه الإسترليني وسندات الحكومة البريطانية خلال الشهر الماضي بسبب المخاوف من ازدياد عجز الموازنة.
يتم تداول الجنيه الآن عند أدنى معدل له مقابل الدولار منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي وهو حوالي جنيه مقابل 1.15 دولار. ويتحدث بعض المحللين عن احتمال تعادله مع الدولار.
لو لم تخرج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي لما كان للتوتر في الأسواق كثير أهمية. عندما كانت بريطانيا عضوا في الإتحاد الأوروبي كان الجنيه يميل إلى تعقب اليورو عن كثب. لكن بريطانيا الآن لوحدها واتضح احتمال ضعف عملتها ووضعها المالي.
كما تعاني بريطانيا من عجز تجاري كبير يمكن تمويله فقط إذا ظلت تتلقى تدفقات كبيرة من رأس المال المالي. وفي الأسبوع الماضي حذر محلل بمصرف دويتشه بانك بقوله «إذا ازداد تآكل ثقة المستثمرين ربما تتحول هذه الدينامية إلى أزمة ذاتية التحقق في ميزان المدفوعات حيث من الممكن أن يرفض الأجانب تمويل العجز الخارجي البريطاني.»
أشار مراقبون آخرون إلى أن خطط تراس للتوسع في الإنفاق قد تدفع بنك إنجلترا الذي ينفر من الانكماش الاقتصادي إلى رفع أسعار الفائدة بقدرٍ أكبر في الشهور القادمة. ويتوقع البنك انكماشا يبدأ في الربع الأخير من هذا العام ويستمر لعام كامل. وإذا رفع البنك أسعار الفائدة بوتيرة أسرع في الشهور القادمة سيزيد ذلك من مخاطر حدوث تدهور اقتصادي أطول وأعمق.
يقينا هنالك سيناريوهات أكثر ملاءمة. عندما تحدث صدمات من نوع أزمة الطاقة الحالية حتما ستواجه الحكومة ضغوطا لاستخدام سلطتها في الاقتراض لتلطيف أثرها على العائلات العاملة. إلى ذلك، ارتفاع عجوزات الموازنة ليست بالضرورة مؤذية.
جاء في مقال لأناتول كاليتسكي كبير الاقتصاديين بشركة جافيتكال دراجونونيكس نشر يوم الثلاثاء أن رونالد ريجان ودونالد ترامب أسرفا كلاهما في الإنفاق الحكومي وتجاهلا النصائح الاقتصادية بخفض الضرائب وبالتسبب في عجوزات مالية لم تخطر بالبال من قبل. لكن الكوارث التي تنبأ الكثيرون بأنها ستعقب ذلك لم تحدث أبدا.
الفكرة التي ينطوي عليها ما كتبه كاليتسكي أن ليز تراس المحافظة قد ينتهي بها المطاف إلى إعادة الاعتبار لجون مينارد كينز الداعية الليبرالي العظيم للتمويل بالعجز في الأزمات الاقتصادية. ربما تفضل تراس إعادة الاعتبار لميلتون فريدمان البطل الاقتصادي لمارجريت تاتشر. لكن بالنظر إلى ضخامة التحديات التي تواجهها قد ترحب بأية نتيجة اقتصادية بصرف النظر عن أبوَّتها الفكرية طالما لا تدرج اسمها في كتب التاريخ بوصفها رئيسة الوزراء الرابعة الفاشلة على التوالي عن حزب المحافظين (بعد ديفيد جونسون وتيريزا ماي وديفيد كاميرون).
جون كاسيدي كاتب ومحرر بمجلة نيويوركر
