لماذا نفكر بالغرب حين نفكر بغزة؟

16 مارس 2024
16 مارس 2024

قد يشبه العنوان إلى حد ما أن نسأل: لماذا نفكر بروسيا حين نفكر بأوكرانيا؟ أو حتى لماذا نفكر بالنازية حين نفكر بالمحرقة؟ مع أن الأمر لا يبدو هكذا دائما في الحالة الفلسطينية، فعلاقة الغرب بحرب الإبادة الجماعية المستمرة في غزة ليست من قبيل السبب والنتيجة فقط، بل أيضا لأننا في العمق ما زلنا نرى أن العواصم الغربية هي جزء من الحل؛ رغم إيماننا بأنها جزءٌ من المشكلة، أو بأنها هي المشكلة، فلا يمكن أن ننسى بأن يد الاستعمار الغربي كانت وما زالت جذرا أساسيا مؤسسا للمأساة الفلسطينية برمتها منذ النكبة، وليس لمأساة غزة فقط. يكفي استحضار صورة واحدة بعينها من صور الغرب المحتشدة بالأضداد والتناقضات في هذه الحرب؛ وهي صورة ليندا جرينفيلد التي استطاعت أن تكثف مشهد الانحياز الغربي لإسرائيل ببراعة شبه مسرحية في مجلس الأمن؛ حين رفعت المرأة السوداء كف النقض الأمريكي في وجه العالم الذي صمت للحظة، في الـ20 من فبراير الماضي، بانتظار الموافقة على مشروع القرار الذي تقدمت به الجزائر من أجل وقف فوري لإطلاق النار على غزة (أو «في غزة» كما صِيغ القرار، مع ضرورة الانتباه إلى مغبة حروف الجر وخطر السير الأعمى فوق ألغام اللغة).

لماذا، إذن، نفكر بالغرب حين نفكر بغزة؟ لماذا نفكر بالغرب حتى حين نفكر بمشاكلنا الشخصية في بلداننا العربية؟ باختصار شديد فإنني لا أجدُنا نتعامل مع الغرب، وفي مقدمته الولايات المتحدة، إلا انطلاقا من الشَطرِ الشهير لأبي الطيب المتنبي «فيكَ الخصامُ وأنتَ الخصمُ والحكم». وقد أذهب لما هو أبعد من ذلك حين أزعم بأن الثقافة الغربية، رغم عوراتها التي كشفتها غزة، ما زالت تمثل بالنسبة للكثير منا حلما لطالما ارتبط بقيم مثل الديمقراطية وحرية التعبير والحرية والعدالة والمساواة، حتى إن البعض ليتطلع في كثير من الأحيان للدول الغربية كخلاصٍ شخصي حينما يفكر بالهجرة أو فرص العمل والتعليم، وهنا يثبت المتنبي حضوره مرة أخرى حين يقول:

ومن نكد الدنيا على الحُر أن يرى

عدوا له ما من صداقته بدُّ

ولعل هذا التناقض في موقفنا من العالم الغربي والثقافة الغربية هو ما يفسر عدم قدرتنا على تعريف الغرب كعدو؛ فبينما نعترف بأننا مهزومون نكتشف في الوقت ذاته بأننا نعاني من التباس جارح في تعريف العدو، مثلما يلتبس تعريف الذات علينا؛ وهما حيرتان تتحاوران في عبارة شرطية واحدة: قُل لي من هم، أقل لك من نحن؟! ومن هذا الاضطراب في تعريف الأنا والآخر تبدأ المشكلة.

الملاحَظ أن التفكير بالغرب قد أصبح نقطة ارتكاز في أي نقاش نخوضه عن القضية الفلسطينية بعد السابع من أكتوبر 2023؛ إذ لا يبدأ النقاش حتى ينصرف لتناول قضايا مثل التحالف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وازدواجية المعايير الغربية، وإمكانية التعويل على تغيُّر الرأي العام في الغرب- إلخ، وكأن غزة قد دخلت لوحدها في مواجهة مباشرة مع الغرب منذ السابع من أكتوبر، أو لكأن غزة أصبحت موضوعا غريبا يرتهن مصيره لضغط المجتمعات المدنية على حكوماتها في الغرب.

أما نحن في العالم العربي فلا مهمة لنا هذه الأيام سوى أن نحمِّل الغرب المسؤولية في حين أننا نعول عليه في الوقت نفسه لكننا نهجوه هجاءً يتواضع إلى درجة الاستجداء لأن يفعل شيئا من أجلنا! وفي أثناء ذلك كله يوفر لنا هذا الشبح الغربي ما يلزمنا من ذرائع ومبررات لتبرير تقصيرنا وتخاذلنا وكسلنا عن استثمار أقصى حدود الممكن لفعل كل شيء ممكن لوقف المذبحة.

وإذا كانت الولايات المتحدة ومعها بريطانيا وألمانيا وفرنسا، وطبعا إسرائيل، تمثل في هذه الحرب الاختصار المعبر عن وجه الغرب، فإن الزعم بأن غزة الآن هي جبهة الشرق لا يبدو مستغربا ولا مستهجنا، بل يذهب البعض إلى أن معركة غزة هي بالضبط معركة بين الشرق والغرب. وهو تصور لا يخلو من التهور المندفع وراء إغراء الثنائيات القاتلة التي تذكر بثنائية الخير والشر في كلاسيكيات الأدب التي تُقرأ على أَسرَّة الأطفال قبل النوم. ولكن من ذا الذي يستطيع مقاومة قوة الاختزال وإغراء الاختصارات في قلب هذا الطوفان؟ وكيف ننجو، في الوقت نفسه، من دُوار الجهات في عرض البحر حين نتذكر أننا نعيش في عالم ما بعد العولمة؛ حيث «لا الشرق شرق تماما، ولا الغرب غربٌ تماما» كما يقول محمود درويش في رثائه إدوارد سعيد؟!

سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني