كيف نحفظ التضامن الاجتماعي؟

16 مارس 2024
16 مارس 2024

يشكل التضامن الاجتماعي الرابط الأساس لاستدامة بقاء الجماعة الاجتماعية، وكبح أشكال الصراع الاجتماعي الناشئة، أو التقليل من احتماليات حدوثها؛ ذلك أنه ينطلق من فهم موحد للقيمة الاجتماعية، وقبول مشترك لها، واتفاق عام على ضرورة ترجمتها في السلوك الاجتماعي. وليس بمحدث القول: إن بدايات تفتت المجتمعات إنما تنشأ من خلال تقلص مساحة التضامن الاجتماعي، وعلو قيم «التنسيب»، و«الأنانية الفردية»، أو «أنانية المجموعة الاجتماعية» على المصلحة العامة للمجتمع. وهذا يقودنا إلى محاولة فهم (هندسة التضامن الاجتماعي). في المنطلق لا بد من حصر العوامل التي تسهم في وجود التضامن الاجتماعي وديمومته؛ فالتضامن الاجتماعي إنما تتحكم فيه ثمانية عوامل رئيسة: (الفهم والقبول العام للقيمة الاجتماعية المشتركة وتأريخية التنوع والتعايش في المجتمع ووجود المعنى الاجتماعي المتوافق عليه ودور السياسات العامة في تحقيق العدالة الاقتصادية وكبح عدم المساواة ووجود نظم لرعاية الفئات الأشد احتياجًا وتحسين أحوالها ودور البناء السياسي في تدعيم احتضان الشمول ونبذ العنصرية والتمييز والخطاب العام الداعم للتضامن الاجتماعي والمأسسة والتنشئة على قيم التضامن الاجتماعي وطبيعة انفتاح المجتمع على المجتمعات الأخرى). وبالنظر إلى هذه العوامل نجد أنها تنقسم إلى عوامل نابعة من أصل المجتمع، وعوامل ترتبط بتدبير المجتمع (دور الحكومات والسياسات والتشريعات والانتظام المدني). والواقع أن وجود «الفهم والقبول العام للقيمة الاجتماعية المشتركة» هو الأساس في ديمومة التضامن الاجتماعي في المجتمع؛ ذلك أنه كلما كان أفراد المجتمع يحملون الفهم ذاته ويضعون الأهمية ذاتها ويلتزمون بالسلوك ذاته لقيمة اجتماعية معينة، كلما كانوا أكثر قدرة على الالتئام بمحيطهم الاجتماعي، وتحقيق السعي الاجتماعي المشترك مع بقية أفراد المجتمع، ومحاولة تحقيق طموحاتهم وإشباع حاجاتهم الذاتية عبر القيمة ذاتها وفي حدودها، واضعين في الاعتبار عدم المساس بها.

ومن هنا فإن ما يُعرف بـ«الهيمنة الثقافية»، أو محاولة بعض المجتمعات تصدير منتجاتها الثقافية حاملة قيمها، والأسس الفكرية التي تؤمن بها، ومحاولة تسويقها وترويجها إنما يحمل في طياته محاولة لتفتيت الفهم المشترك للقيمة الاجتماعية التي يؤمن بها مجتمع/ جماعة ما. فنصير إلى حالة «تنسيب القيم»، أي جعل معناها ومغزاها ومضامينها خاضعة لتفسير الأفراد المتباين، وحاملة للتأويلات، دون اتفاق جمعي عليها. فتنشأ حالة «المفهوم غير المتفق عليه»، التي هي في الحقيقة ليست نتيجة نسبية المفهوم/ القيمة نفسها، وإنما نتيجة التعرض لشكل جديد من تفسيراتها، أو السلوكيات المنبنية عليها، وحينها لا يستطيع المجتمع تحقيق التوافق الجمعي، الذي هو الأصل لبقاء القيمة من ناحية، وبالتالي حفظ التضامن الاجتماعي من ناحية أخرى. لذلك حين الحديث عن «قيم تحاول ترويجها مجتمعات معينة» أو «حملات إعلامية وثقافية معينة» لابد من فهم الهندسة الجديدة التي يمكن أن تضرب القيم الاجتماعية القائمة في المجتمع نتيجة ذلك، وكيف ستتأثر؟ وكيف ستكون عرضة للتفسيرات المتعددة، وكيف ستتغير السلوكيات والممارسات الاجتماعية التي تقوم عليها؟

وأهمية هذا العامل لا تنفي أو تقلل دور العوامل الأخرى؛ فالقوانين والسياسات والنظم الداعمة للعدالة الاجتماعية والاقتصادية كفيلة بجعل أفراد المجتمع على خط واحد؛ وبالتالي تحقيق القبول المعني للقيم المشتركة، والشعور بالوحدة الاجتماعية تجاه الحفاظ على التضامن الاجتماعي. ولحفظ هذا التضامن في حالتنا الراهنة نعتقد بضرورة «مأسسة التضامن الاجتماعي»، بمعنى تحويل مبادئه وصيغه وقيمه إلى نماذج في عمل المؤسسات الاجتماعية ومؤسسات الدولة القائمة. فوجود منظومة فاعلة للتطوع، ومحوكمة، وذات أثر مستبين للمجتمع هو عنصر عصري يعبر عن قوة التضامن الاجتماعي، وتعكس مؤشراته مدى الترابط الاجتماعي عبر مرور السنوات، وربط ذلك التطوع باستحقاقات أخرى، مثل أفضلية التنافس على الوظائف، أو الأفضلية الأكاديمية، أو أفضلية الترقي في مؤسسات العمل، أو أفضلية الترشح والترشيح للمجالس المنتخبة، من شأن ذلك أن يعزز دافعية المجتمع نحوه، ويضمن استدامته، وبالتالي تعزيز التضامن الاجتماعي. وتعزيز مساحة «المجتمعية» في وسائل الإعلام على حساب «الفردية» من خلال مجمل المضامين والبرامج والأعمال الدرامية من شأنه أن يدفع بالتضامن الاجتماعي إلى الديمومة والبقاء. كما أن بناء السياسات الاجتماعية على أساس مركزية التضامن الاجتماعي، وتعزيز حيزه في برامج التنمية الاجتماعية من شأنه أن يضمن قبول المجتمع لتلك البرامج من ناحية، وتعزيز التضامن الاجتماعي من ناحية أخرى. كما أن مأسسة نظام للاقتصاد التضامني الذي يعكس في أشكاله وجود مؤسسات تقوم بتقديم الخدمات الاجتماعي التي تقدمها الدولة، ولكن بصورة تضامنية، كالجمعيات التعاونية، والخدمات المقدمة عبر مؤسسات المجتمع المدني، ومنصات تسويق منتجات الأسر المنتجة، كلها تصب في اقتصاديات التضامن التي تعززه وتستديمه وتحيله إلى شكل مؤسسي قائم.

وإذ يتميز المجتمع في سلطنة عُمان بحالة متسقة من التضامن الاجتماعي تاريخيًا؛ فإن التحدي الراهن والمستقبلي هو في القدرة على صون هذا التضامن، نتيجة تعدد المؤثرات ومنها اشتباك المفاهيم العالمية للقيم، وتنسيب تلك القيم في الخطاب العالمي. وهو ما يستدعي النظر إلى كافة منظومة العوامل التي تسهم في تعزيز هذا التضامن، فحتى تخطيط المدن وأنماط إسكان الناس، وحتى أنماط التنقل وتصاميمها والعمليات التي نعتقد أنها تخاطب الجانب المادي في التنمية المجتمعية هي تؤثر بطريقة غير مباشرة إما إيجابًا وإما سلبًا على نمط التضامن الاجتماعي. فعلى سبيل المثال الأفكار التي يقوم عليها الاقتصاد التشاركي (وإن كانت قادمة من منظورات اقتصادية / تجارية صرفة) إلا أن جوانب منها إذا ما استطعنا تطويعها ومحورتها وفق مبادئ وثقافة المجتمع قد تكون محركًا حديثًا لفعل التضامن الاجتماعي.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان