كيف علّم الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة بعضهما درسا في الوفاق؟!

12 يونيو 2022
12 يونيو 2022

الترجمة عن الروسية يوسف نبيل

قال هنري مين المحامي البريطاني الشهير في القرن التاسع عشر: «الحرب قديمة قدم الإنسانية، والسلام هو أحدث الاختراعات». كتب المؤرخ العسكري البريطاني ميخائيل هوارد في كتابه «اختراع العالم» الذي صدر منذ عشرين عامًا عن حلول «عصر ما بعد البطولة» حيث لم تعد الحرب توحِّد الأمم وتوقفت عن أن تصير وسيلة لإحداث التطابق بينها وصار العلم الوطني لأهله بمثابة شعار شركة. تميل المجتمعات الغربية المتحضرة إلى الرغبة في عدم تحمل أي خسائر ثقيلة. استنتج هوارد أن حروب القرن العشرين المريعة كانت نتيجة لإيديولوجيات الدول القومية.

في الوقت الذي كان هوارد يكتب فيه كتابه كان تأثير فكرة نهاية التاريخ بانتصار الليبرالية لفوكوياما لا يزال له تأثيره المخدِّر، وكل ما فعله هوارد هو أن وجد تأكيدًا على إتمام التطور التاريخي في نهاية الحروب. عادت فكرة الدول القومية ومعها الحروب قبل أحداث سبتمبر بعام واحد، أو ربما قبلها ببضعة أعوام.

يبدو أن الأمم قد نسيت كيفية إيجاد مخرج من المواقف الحرجة التي ظهرت بسبب خلافاتها حول مبادئها الخاصة، وعندما يدور الحديث عنها، كما كتب كيسنجر في كتابه في 1957: «السلاح النووي والسياسة الخارجية» تصير الدبلوماسية غير مجدية: بدت الدبلوماسية أكثر فاعلية في المواقف التي لم يتطرق فيها الخلاف إلى مسائل يعتبرها المتنازعون حيوية للغاية».

بالرغم من ذلك أدى فهم الطرفين حينها لحجم الخسائر غير المحتملة إلى عدم انتقالهما من حالة حرب باردة إلى حرب حقيقية، وكبح جناحهما في أزمة الصواريخ الكوبية في 1962. الآن لم تعد هذه القواعد الكلاسيكية للحرب الباردة تعمل جيدًا.

خلال أعوام المواجهة بين البلدين أدت هذه القواعد بقادة البلدين إلى تخمينات غير متوقعة من قبيل: ماذا لو اتسم فجأة خصم محتمل على الجانب الآخر من المحيط بدرجة كافية من العملية ليبني علاقات دون التقيد بهذه القواعد الأساسية للنظامين؟

في 14 فبراير 1969 دُعي لأول مرة هنري كيسنجر المستشار الجديد للرئيس نيكسون في مجال الأمن القومي إلى السفارة السوفييتية في حفل استقبال على شرف جيورجي أرباتوف مدير معهد الولايات المتحدة وكندا. خلال الحفل دُعي المستشار إلى الطابق الثاني حيث المقر الخاص للسفير أناتولي دوبرينين.

ناقش الرجلان الفرص الضائعة لإصلاح العلاقات بين البلدين بين أعوام 1959 - 1963، واتفقا مبدئيًا على أن الوقت قد حان لاستئناف هذه المحاولات. قال دوبرينين مبتسمًا: «لا تقع كل الأخطاء على كاهل الضمير الأمريكي» ووعد كيسنجر بترتيب لقاء له بالرئيس الجديد في أقرب فرصة.

سئمت الإدارة من الاختيار بين الحرب النووية وعدم فعل شيء وبدا لكيسنجر أن السوفييت يفضّلون التنمية الاقتصادية على «مغامراتهم في الخارج». في 1970 قدَّم نيكسون وثيقة «السياسة الخارجية للولايات المتحدة في السبعينيات: استراتيجية جديدة للعالم»، وكانت وثيقة لامعة من كل جوانبها حتى الأدبية حينما ذكرت أن العالم «أكبر من مجرد فكرة غياب الحرب. إنه حالة راسخة في العلاقات الدولية تزول فيها أسباب الحرب». اقترحت الوثيقة بناء علاقات مع الجميع؛ حتى مع الشيوعيين في المجال التجاري. كانت «حقبة مفاوضات» كما كتب فريق نيكسون لاحقًا وقد أتت في الوقت الملائم تمامًا لتجنب الحرب.

رأت الوثيقة أن الماركسية مثل أي مذهب آخر قد عفا عليها الزمن ولم تعد صالحة للحقائق الصناعية الجديدة، وهذا يعني إنه بالإمكان التفاوض مع الاتحاد السوفييتي على أساس نفعي بحت.

بينما كان كيسنجر ودوبرينين يشكّلان «قناة خاصة» للتواصل بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي اتخذ ألكسي كوسيجين مساره الخاص، حيث أسس علاقة خاصة بين الاتحاد السوفييتي وكندا التي لم تكن في هذا الوقت على وفاق مع الولايات المتحدة. في كل الأحوال لم يطلق نيكسون على بيير إليوت أكثر من تسمية «هذا الأهبل». في مايو زار ترودو الاتحاد السوفييتي وقد أعلن للعالم عن مكتسبه الجديد: زوجته الجميلة الشابة ذات الـ 22 عاما ماجريت التي ستصير فيما بعد والدة رئيس الوزراء الكندي الحالي جاستن ترودو. صارت مارجريت فورًا صديقة لأصغر بنات رئيس الوزراء السوفييتي لودميلا جفيشيانا كوسيجينا التي حلت محل السيدة الأولى في اجتماعات والدها. في أكتوبر زار كوسيجين كندا حيث انعقدت هناك أواصر صداقة وطيدة بالرغم من الهجوم على ألكسي نيقولايفيتش من قِبل مهاجر مجري.

في فانكوفر، بعد مباراة هوكي بين فريقي فانكوفر كاناكس ومونتريال كانيديينز بيّن هنري ريشار قائد فريق مونتريال وشقيق موريس روكيت العظيم لكوسيجين كيفية الإمساك بعصا الهوكي. بعد ذلك تحددت المباريات الودية التي ستُقام بين كندا والاتحاد السوفييتي في 1972 التي أحدثت ثقبًا هائلا في هذا الجدار الحديدي.

تحولت ألبرتا التي كانت بمثابة أحد مخازن الحبوب للاتحاد السوفييتي إلى قناة خاصة لإعداد لقاء القمة بين بريجنيف ونيكسون، وكانت قمة مهمة من حيث فرض قيود نووية، ولكن بدا الأمر غير ممكن بسبب انخراط البلدين حينها في حرب بالوكالة في فيتنام.

سعى كيسنجر بفضل غروره الرهيب إلى صنع صفقة، لا تقتصر على السوفييت. في أبريل التقى نيكسون بماو، وفتن كيسنجر نائبه بأحاديثه عن قراءته لأعمال الديكتاتور حينما كان لا يزال في جامعة هارفارد. التقط ماو الطعم، فقد ظنّ إن الأمريكيين سوف يتحالفون معه ضد الاتحاد السوفييتي.

كانت الفكرة هي بناء مثلث: مغازلة كل من الصين والاتحاد السوفييتي.

كاد التصعيد في فيتنام أن يُخرِج القمة عن مسارها، ولكن الصفقة الكبيرة مع السوفييت كانت بالنسبة لغرور كيسنجر مسألة حيوية، وبعد زيارته للصين توجه مباشرة في زيارة سرية إلى الاتحاد السوفييتي للقاء بريجنيف. قضى هناك مع الأمين العام أربعة أيام وذهب معه إلى الصيد في كابانوف ولعب تنس الطاولة مع حارس من فريق «تسعة» وفهم أن الروس لا يريدون ربط المسألة الفيتنامية بالمحادثات الجادة المتعلقة بالمسألة النووية. إنهم كالصينيين، لم يروا أهمية لمناقشة مسألة تايوان مع الأمريكيين، حيث إن هذه المسألة من وجهة نظرهم بدأت منذ عقود، وسيتبين إن هذا صحيح فعلا. باختصار لم تفشل القمة؛ فعلى حد قول كيسنجر: «أنا مستعد لأي شيء من أجل الكافيار». فيما بعد قال دوبرينين عنه إنه الإنسان الوحيد القادر على تناول كافيار روسي حقيقي بالعيدان الصينية.

الأمر الرئيس هنا هو أن نيكسون أراد السلام، ولم تكن رغبة بريجنيف الذي عاصر الحرب العالمية الثانية في السلام أقل منه. لذلك أغلقا عينيهما عما يحدث في فيتنام وتم تجاهل «عقيدة بريجنيف» والهجرة اليهودية وسولنجيتسين وزاخاروف و «سرقة الحبوب الكبيرة» حينما اشترى الاتحاد السوفييتي في 1972 كل الحبوب من الولايات المتحدة بسعر بخس من البائعين، ووترجيت فيما بعد. لذلك التقيا منذ خمسين عامًا وبدأت سياسة الوفاق بإبرام اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية، وجمعهما مجددا لقاءان ناجحان، وهذا لا يعني بالطبع إنه لم تكن هناك صعوبات في المفاوضات. مع ذلك كان على نيكسون أن يدفع مقابل هذا السلام. في 1972 قدّم كاديلاك بعشرة آلاف دولار، وفي 1973 لينكولن كونتينينتال بالسعر ذاته، وفي 1974 حصل ليونيد إيليتش على سيارة العام هدية له، وكانت شيفروليه مونتي كارلو بـ 5578 دولارا.

بعد ذلك تمت أحداث ووترجيت ووجِّهت الاتهامات، وأصيب بريجنيف بالسكتة الدماغية التي حوّلته إلى دعابة على قدمين، وانتهى به الأمر إلى تقليص سياسة الوفاق هذه وغزو أفغانستان الذي صار أول خطوة في طريق نهاية الاتحاد السوفييتي. ضاعت فرصة الوفاق في الستينيات بين أمور أخرى حيث اغتيل كينيدي ووقع خروتشوف ضحية لمؤامرة القصر.

لا تزال الشخصيات تلعب دورا كبيرا في التاريخ. صحيح أن العالم ليس نتاجا لمفاوضات وابتسامات مهذبة وحسب، لكنها عوامل مهمة أيضًا. لا يحدث ذلك بالطبع بدون حسن نية من جانب العاطفة ونفع من جانب العقل. الأهم من كل ذلك هي الرغبة في عدم القتال. قال الأمريكيون قبل نصف قرن إن بريجنيف مهووس بالسلام.

أندري كوليسنيكوف صحفي مدير البرامج في مركز كارنيجي في موسكو.