قضايا قديمة وراء الاضطراب في قطاع البنوك
ترجمة - قاسم مكي -
مع هبوط أسهم البنوك الإقليمية في الولايات المتحدة يوم الاثنين (تاريخ المقال 13 مارس) وفيما كان أداء السوق عموما معقولا أصَرَّت إدارة بايدن على أن الخطوات التي اتخذتها خلال نهاية الأسبوع للحيلولة دون تفشي الذعر وسط المودعين لا ترقى إلى أن تكون إنقاذا مصرفيا بأموال دافعي الضرائب. وكانت المؤسسة الفدرالية لتأمين الإيداعات بعد إغلاقها بنك سيليكون فالي يوم الجمعة 10 مارس وبنك سيجناتشر الذي ينشط في قطاع العملات المشفرة يوم الأحد 12 مارس تحركت لحماية المودعين بمن فيهم أصحاب الإيداعات غير المؤمَّنة. جاء في بيان مشترك لوزارة الخزانة والمؤسسة الفدرالية وبنك الاحتياط الفدرالي أن «دافع الضرائب لن يتحمّل أي خسائر مرتبطة بقرار (إنقاذ) بنك سيليكون فالي». وفي صباح الاثنين كرر الرئيس بايدن هذه الرسالة وتعهّد بشكل قاطع بمحاسبة المسؤولين محاسبة تامة عن «هذه الفوضى». أما مسؤولو وحملة أسهم سيليكون فالي وسيجناتشر فقد أكدت الإدارة الأمريكية أنها لن تنقذهم بأموال دافعي الضرائب.
عند إغلاقها بنك سيليكون فالي وهو مُقرض كبير لشركات التقنية وعدت المؤسسة الفدرالية بإبعاد كبار مسؤولي إدارته وأسقطت حقوق مساهميه وأوجدت كيانا قانونيا جديدا هو بنك سانتا كلارا الوطني لتأمين الودائع لكي يتولى عمليات البنك إلى أن يُباع إذا أمكن ذلك. (حصل بنك سيجناتشر على معاملة شبيهة). مع ذلك من الواضح استفادة بعض الأفراد والشركات من التدخل الطارئ للحكومة وتحديدا عملاء مصرفي سيليكون فالي وسيجناتشر الذين لديهم إيداعات تتجاوز المبلغ المشمول بالتأمين وهو ربع مليون دولار. في مساء الأحد قال لي جوردان ريكس أستاذ القانون بجامعة فاندربيلت والذي سبق أن عمل بوزارة الخزانة «عندما يكون لديك أناس سيخسرون أموالا ولكنهم الآن ليسوا كذلك (فحتما) أن أحدا ما أنقذهم». وأضاف: «لقد أثاروا ضجة كبرى لتعويضهم عن خسارة ودائعهم. والآن تم تعويضهم». فحسب البيان المشترك المذكور آنفا «أي خسائر لصندوق تأمين الودائع تنجم عن دعم أصحاب الودائع الذين لا يشمل التأمين ودائعهم سيتم استردادها بفرض رسوم خاصة على البنوك حسبما هو مطلوب قانونا».
هذا يوحي بأن التكلفة النهائية التي هي غير مؤكدة إلى حد بعيد في هذه المرحلة سيتحمّلها في الغالب عملاء ومساهمو البنوك الأخرى. لكن حتى إذا لم يكن دافعو الضرائب مسؤولين مباشرة عن تغطية الخسائر في بنك سيليكون فالي وبنك سيجانتشر تثير الإجراءات المتخذة أسئلة كبرى حول النظام المالي والمعاملة التفضيلية التي يحصل عليها من الحكومة الفدرالية بما في ذلك التطمينات المالية الضمنية التي تنحو إلى أن تكون ضمانات صريحة في أوضاع مماثلة للأزمة الحالية.
لقد أثيرت هذه الأسئلة قبل 15 عاما أثناء الأزمة المالية العظيمة عندما أنقذ الكونجرس البنوك الكبيرة واستحدث بنك الاحتياط عددا من برامج الإنقاذ الطارئة لتثبيت النظام المالي. وقتها ضخَّ دافعو الضرائب أموالا في البنوك كانت تحتاجها بشدة ووافق بنك الاحتياط على السماح لها بإيداع بعض أصولها المقومة بأقل من قيمتها الدفترية في البنك المركزي كغطاء لقروض نقدية.
كان القصد من الإصلاحات التي استحدثت بموجب قانون دود-فرانك لعام 2010 الحيلولة دون الاضطرار إلى اتخاذ مثل هذه الإجراءات. لكن وكجزء من خطة الإنقاذ يوم الأحد دشن بنك الاحتياط آلية إقراض جديدة هي «برنامج الإقراض المصرفي لأجَل» بدعم من وزارة الخزانة الذي سيقبل الأصول المتآكلة للبنوك كتغطية للقروض بقيمتها الاسمية وتمكينها بذلك من تجنب بيعها بخسارة على نحو ما حدث لبنك سيليكون فالي.
من الواضح أن بنك الاحتياط يعتقد بضرورة هذه الخطوة لتلافي مشكلة كبرى. فبنوكٌ عديدة لديها موجودات كبيرة من سندات الخزانة وأصول أخرى تدنَّت قيمتها السوقية بشدة منذ شرع في رفع أسعار الفائدة. لكن إصلاحات عام 2010 كان قد قُصِد بها منع حدوث تدخل بهذا الحجم.
أين الخلل إذن؟ في حالة بنك سيليكون فالي يبدو أنه اقتران عدم كفاءة الإدارة وتراخي الإجراءات التنظيمية وإثارة الذعر من قبل بعض ذوي النفوذ في منطقة وادي السيلكون.
مع هبوط أسعار الفائدة إلى مستويات قياسية في تدنيها أثناء الجائحة يبدو أن بنك سيليكون فالي اشترى كميات ضخمة من سندات الخزانة طويلة الأجل والأعلى عائدا، ولم يتحوّط من احتمال ارتفاع أسعار الفائدة. (ارتفاع سعر الفائدة يقود إلى انخفاض القيمة الاسمية للسندات القديمة لتدنِّي عائدها مقارنة بعائد السندات الجديدة وسيخسر البنك إذا احتاج إلى السيولة واضطر إلى بيع موجوداته من السندات القديمة وهذا ما حدث لبنك سيليكون فالي - المترجم). بالعودة إلى ما حدث يتضح أن تلك كانت خطوة طائشة إلى درجة أنها تثير سؤالا حول سبب عدم اكتشافها من جانب بنك الاحتياط الفدرالي المسؤول تنظيميا عن البنك ومطالبته باتخاذ إجراء تصحيحي. هنالك عامل مساهم في ذلك ربما يتمثل في التخفيف من تشدد القواعد التنظيمية في قانون دود-فرانك للبنوك متوسطة الحجم والذي أجازه الديمقراطيون والجمهوريون في الكونجرس عام 2018 بطلب من لوبي البنوك. من بين تلك التغييرات أن البنوك من شاكلة سيليكون فالي لم تعد تخضع لاختبارات الإجهاد أو الضغط المالي السنوية والتي كان من شأنها تمكين الجهات التنظيمية من اكتشاف بعض مكامن ضعفها.
وأخيرا عندما طفحت المشاكل المالية لبنك سيليكون فالي وسعى كبار مسؤوليه لمعالجتها بزيادة رأسمال البنك ذُكِر أن شركة رأس المال المغامر «فاوندرز فند» وشخصيات أخرى في وادي السيليكون نصحت الشركات بسحب ودائعها من البنك بأسرع ما يمكن. وأعقب ذلك ركض المودعين نحو البنك.
وعندما انهار سيليكون فالي وهو البنك رقم 16 في الولايات المتحدة وهبطت أسهم بنوك أخرى كان من الحتمي تماما أن تتقدم السلطات لمنع المزيد من «التدافع» لسحب الودائع المصرفية. وهو ظاهرة تعرف في دوائر وول ستريت بالعدوَى. وحسب البيان المشترك الذي صدر يوم الاثنين نصحت المؤسسة الفدرالية لتأمين الودائع وبنك الاحتياط الفدرالي الإدارة الأمريكية بضرورة هذه الإجراءات ووافق الرئيس بايدن على اتخاذها.
من الواضح أن كثيرين جرى تحميلهم مسؤولية ما حدث. لكن القضايا الأكبر هنا هي القضايا نفسها التي أثارتها أزمة عام 2008.
ما وظيفة البنوك؟ وإلى أي حد هي شركات مستقلة حقا وليست قاصرة تحت وصاية الدولة؟
يقول جوردان ريكس وهو يشير إلى القوانين التي تعود إلى تشريع البنك الوطني لعام 1964: «في نظري أفضل طريقة لتصور التاريخ المصرفي في أمريكا وبِنْيَة قوانيننا المصرفية هي أن البنوك بزيادتها عرض النقود تمارس سلطات مخوَّلة بوصفها وكالات للحكومة الفدرالية أساسا».
مع انهيار بنك سيليكون فالي الذي جعل وجهة النظر هذه أكثر إقناعا اتضحت بقدر أكبر الحاجة إلى بذل المزيد لمنع البنوك من اتباع نموذج عمل يستغل وضعها المتميز في الأوقات الطيبة ثم الالتفات إلى واشنطن (طلبا للإنقاذ - المترجم) عندما تسوء الأمور.
من الإجراءات التي يوصي بها ريكس مطالبة كل البنوك بتأمين كامل إيداعات العملاء بنسبة 100% وفرض رسوم عليها مقابل هذه الخدمة بطريقة تحقق تدفق عائد مضمون. يقول «يجب مكافأة دافعي الضرائب بقدرِ كافٍ مقابل إصدار وثائق التأمين». من بين الإصلاحات الأخرى التي قد تكون ضرورية إجبار البنوك الإقليمية على زيادة رأس المال المساهم حتى تكون أقل هشاشة وإلزامها بالتحوط من مخاطر سعر الفائدة واستعادة اختبارات الإجهاد (الضغط) المصرفي للبنوك متوسطة الحجم مثل بنك سيليكون فالي.
اتخاذ هذا المسار يرقَى إلى الإقرار بأن البنوك حتى الصغيرة منها هي بالضرورة أجهزة خدمات عامة في المجتمعات التي تخدمها ومن ثمَّ تنظيمها بطريقة سليمة. هنالك خيار أكثر جذرية يفضله بعض التقدميين وهو إنشاء بنوك عامة يمكنها نظريا على الأقل تقديم الخدمات المصرفية الضرورية بتكلفة أقل من نظيراتها الخاصة.
النقطة الأساسية هي حتى إذا لم يكن من الممكن تجنب الإجراءات الأخيرة لن تنتهي الحكاية عند هذا الحد. فالاضطراب الحالي بتعبير ريكس «عَرَض أو تَمَظهُر آخر لمشكلة أعمق تتعلق بالتصميم أو الهيكل الأساسي لنظام النقود والعمل المصرفي».
كاسيدي كاتب ومحرر بمجلة نيويوركر
الترجمة خاصة لـ«$»
